رسائل (داوود عبد السيد)

فكرة العجز, والحيرة فى عالم معاد قاس لا يعرف الرحمة, هى أهم التيمات التى يحبها (داوود عبد السيد) .. ف(يحيى) الشاب الحساس الساذج الذى تخرج ليصبح طبيبا, لم يستطع مزاولة مهنة الطب بسبب مشاكله فى التواصل (اللفظى, وأيضا الانسانى)..يقول (يحيى) فى لقطة ذات دلالة:"كنت باشوف خيبة أمل أبويا فى..ابنه دكتور بس مع وقف التنفيذ!"..عجز (يحيى) فى التواصل والتحقق فى هذا الفيلم يشبه عجز (الشيخ حسنى) فى الكيت كات..كلاهما يملك عالما خاصا ثريا ومشحونا, زكلاهما عاجز عن الوصول إلى تحقيق ذاته وكلاهما يعانى -بأوسع معانى المعاناة- من أجل البقاء والحياة.. (قابيل) تنويعة أخرى على نفس اللحن..فقدرته البدنية وقوته الجسمانية هى أيضا قوة مع وقف التنفيذ..يقول قابيل عن نفسه بمرارة:"عارف خيال المقاتة..أهوأنا كدة! الناس بتقلق من شكلى بس أنا واخد عهد على نفسى ايديا ماتتمدش على حد!"..يخشى (قابيل) من انفلات قوته حتى لا يتسبب فى جريمة قتل كما حدث سابقا (فى اشارة تاريخية إلى جريمة الانسان الأولى من نوعية الاشارات التى يحبها داوود)..عجز (قابيل) نراة يتجسد فى اصابته بالصرع واحتياجه إلى عملية قد تهدد ذاكرته..شخصية (قابيل) من أروع شخصيات (داوود) وقد أداها باقتدار ملفت (محمد لطفى).. (نورا) أيضا تعيش فى تمزق بين حياتها كزوجة (وهى الحياة التى تراها تشبه حياة المومس) وبين مغامرتها مع (يحيى) والتى تراها كـ"شربة ميه وسط العطش" ..تعيش (نورا) أيضا حالة عجز عن تغيير واقعها وعجز عن اتخاذ قرار الفرار من حياتها التى تكرهها.. شخصيات الفيلم كلها تلعب على فكرة العجز عن مواجهة الواقع أو الاستسلام له..فنرى (كارلا) تهرب من الحب لترتمى فى أحضان الغواية المستنكرة, ونرى سكان العمارة يتركونها (وهى التى تمثل الأمان وعبق الماضى) للحاج هاشم الذى يمثل القوة الغاشمة غير المتعقلة (فنعرف إنه يصطاد السمك بالديناميت على عكس (يحيى) الذى ينتظر ما يجود البحر عليه).. حين يجوع (يحيى) ويتوسل للبحر أن يطعمه, تهب ريح شديدة و(نوة) عنيفة تجعل الصيد أمرا مستحيلا..يهتف (يحيى) للبحر صارخا متسائلا عن النظام الفوضوى للحياة..صرخة (يحيى) هى صرخة عاجز لا يفهم ما يدور..وهى صرخة يشاركه فيها كل أبطال الفيلم على اختلاف مشاكلهم..عندئذ يلقى البحر له رسالة مكتوبة بلغة ليست من لغات الأرض..وكأنها تخبره ألا يتسائل كثيرا فهو لن يفهم..فقط عليه أن يعيش..ويتأمل.. فيلم (رسائل البحر) من أقوى أفلام (داوود) حتى هذه اللحظة وقد أجادت كل العناصر لتجعله أشبه بلوحة أسطورية لا خطأ فيها..له أكثر من مستوى للفهم..فمن يريد الاستمتاع بفيلم ظريف عن شخص متلعثم يبدأ حياته من جديد, سيجد مبتغاه..أما من يريد إعمال عقله والوثوب بالفيلم إلى طبقات أعلى, فربما يسعده الحظ ليفهم كل رسائل (داوود) المخبأة داخله..