منذ ثلاث سنوات ، ضمن مهرجان الفيلم الأوروبي بالقاهرة ، شاهدتُ للمخرج الفرنسي جاك أوديار فيلمه "النبي - A Prophet" ، الحاصل حينها على جائزة لجنة التحكيم الكبرى في مهرجان كان السينمائي ، كانت مُشاهدة مُرهقة ، لأن الفيلمِ كان عنيفاً وصعباً ، ولكن مع انتهاءه كُنتُ أعرف أنه سيكون واحد من أفلامي المُفضَّلة لعام 2009 .
في المُقابل ، فإن فيلم "Le vie en rose" ، الذي يتناول حياة الأسطورة الفرنسية إديث بياث ، كان ليصبح أحد أسوأ أفلام السير الذاتية التي شاهدتها ، لولا أداء عظيم من " ماريون كوتيارد" ، تُوّجت على أساسه بأوسكار أفضل ممثلة عام 2007 ، كثاني ممثلة غير أمريكية في التاريخ تحقق هذا الإنجاز ، بعد صوفيا لورين عام 1962 .
شاهدتُ لجاك أوديار فيلمين بعد تجربة "النبي" ، أصبح بسببهم أحد المُخرجين الفرنسيين الذين أنتظر أعمالهم ، في المقابل .. أدهشتني كوتيارد بعدة أداءات للذكرى تَخطف فيها الأضواء من جميع من حولها ، حتى لو كان دانييل داي لويس في " Nine" ، أو جوني ديب وكريستيان بيل في " Public Enemies" ، أو مجموعة من الصف الأول الهوليوودي في " Inception" ، دائماً ما كانت كوتيارد هي الأفضل .
لقاء أوديار وكوتيارد هذا العام ، في " Rust and Bone" ، هو واحد من أكثر أفلام دورة كان الخامسة والستين انتظاراً ، ومن الصعب جداً تصوّر نهاية المهرجان دون أن يحصل على جائزة أو أكثر ، ربما السعفة الذهبية ، وربما أفضل ممثلة لكوتيارد ، ولكنه – حتماً – لن يخرج خالي الوفاض .
قِصة اللاجئ المُعدم والعاطِل آلان ، المسؤول عن ابنه ذو الخمس سنوات ، والذي يتعرف على مُدرّبة الحيتان "ستيفاني" ، إثر مُشاجرة مجنونة دافع فيها عنها في ملهى ليلي ، شعورها بالامتنان يدفعها لإعطاءه رقم هاتفها ، والتعرُّف عليه أكثر رغم كل التناقضات التي تُفرّق بينهم ، قبل أن ينقلب كل شيء رأساً على عِقب ، بعد تعرُّضها لحادِث مُرعب ، تُصبح على أثره عاجزة عن الحركة إلا من خلال كرسي مُتحرّك ، تفقد ساقيها ، طموحاتها ، أحلامها ، ولا يعد لها سوى الصديق/الحبيب الغريب آلان ، الذي سيتقاسم معها الحياة ، ويُساعدها على العيشِ من جديد .
على الرغم من ميلودرامية القصة بالنسبة لأفلام أوديار السابقة ، إلا أنها تعتمد على نفسِ النّقاط التي تَجذبه: التحوُّلات العنيفة التي تجعلنا نُدرك أننا أكثر هَشَاشة مما كنا نظن ، ويُصبح حينها الطَّرف الذي يفترض فيه القوة ، هو الأكثر حاجة للسَنَد ، لذلك .. فإن الرجل الذي عاش حياةً إجرامية وخرج لتوه من السجن في "Read My Libs” ، هو الأكثر احتياجاً للمُعَلّمة الصّمَاء ، والشاب الصغير الذي يريد التحرر من ماضي والده قاطع الطرق سيستند على أستاذ البيانو الهَشّ العَجوز والغريب في "The Beat That My Heart Skipped" ، وزعيم العصابة الذي أصبح "نبياً" لأتباعه .. أضعف من تِلكَ المرأة التي يتعرَّف عليها ويجد معها جزءً من براءته المسلوبة ، وبالمثلِ .. فإن الجَمِيلة والجذابة والمُحققة والنّاجحة "ستيفاني" ، تُصبح هنا هي الأكثر احتياجاً لشخصٍ مُعدم وعاطِل ، صار – مع الوقت - هو السبب الوحيد للحياة .
"حين تُهَيْمن الهَمجية على المُجتمعات ، ويكون العالم بكلّ هذا الجنون ، تُصبح القوة الروحيّة هي الشيء الوحيد الذي يمكن التعويل عليه"
جاك أوديار
مهرجان كان 2009
استقبل النقاد الفيلم بالكثير من المَديح ، لأداءِ ماريون كوتيارد والمَجهود الكبير الذي بذلته لأداء نصف أحداث الفيلم على كُرسي مُتحرك دون قدمين ، ولأوديار ، الذي يؤكد ، في فيلمه الروائي السادس ، على مَسيرة مُتزنة للغاية ، تفرضه واحداً من أفضل مُخرجي فرنسا اليوم .