الناس ، في كافة أفلام المُخرج ديفيد كرونينبيرج ، لا "تَتَغَيَّر" في صورتها الأصليَّة ، الناس "تَتَحَوَّل" إلى صورةٍ أخرى ، أشخاص غير التي كانِت ، الأمر يَتجاوز بعض الرُّتوش على الرّسم ، إنه بدء للوحة من جديد .
مثلاً ، في تُحفته وأفضل أفلامه في نَظري "تاريخ من العنف – A History of Violence" ، يَقول رَجل العائلة لزوجته بعد اكتشاف تاريخه الإجرامي القديم إثر أحداث مجنونة أنه "دَفَنَ جوي كوزاك الذي كانه ، ذهب ثلاث سنوات إلى الصحراء ، ليُصبح توم ستال" ، تِلكَ هي المُعضلة في كافة أفلام المخرج الكندي الكبير ، الفارق الضخم بين أن تكون نسخة مُعدَّلة من "جوي" ، وبين أن تُصبح شخصاً آخر ، تماماً ، كرب العائلة "توم ستال" ، ويُصبح كُل ما جرى ليس مُجرد ماضي انفصلت عنه ، بل تاريخ يَخُص شخصاً آخر .
وبالمِثلِ أيضاً ، دارت أغلب الأفلام المُبكرة في تاريخ كرونينبيرج عن "التحوُّل" في صورة فيزيائية ، فيلم "الذبابة – The Fly" هو العَمَل الأوضح ، مُخترع عبقري يرتكب خطأً أثناء إحدى تجاربه ، تَقضي على حياته وتحوله إلى ذُبابة ، في أحد أكثر الأفلام الكابوسية ، كافكاوية النَكهة ، التي أنتجتها السينما يوماً .
في فِيلمه الأخير " Cosmopolis" ، الذي ينافس على السعفة الذهبية ، ضمن المسابقة الرسمية لمهرجان كان السينمائي هذا العام ، يَدُور كرونينبيرج في نُقطةٍ مُقاربة بين ماديّة التّحَوّل في أفلامه الأولى ورَوحيته في الأفلام الأخيرة ، ويُصبح السؤال: هل من الممكن أن تُحَول الرأسمالية أحد أطرافها إلى مَصَاصِ دماء ؟!
الأربعة وعشرون ساعة الأصعب في حياة شاب ثَري ، تَتَوقف مدينته ، مانهاتن ، عن الحركة أثناء زيارة الرئيس لها ، قبل أن تَبدأ الفوضى التي لا يُفكر خلالها إلا في حَلْقِ شعره بداخل صالون حِلاقة يَقع على الطّرف الآخر في المدينة ، وأثناء رحلة إلى الجِهة الأخرى يُشاهد خلالها مَدينته وإمبراطوريته وهي تنهار ، ويُقابل نَماذج لم يَحتك بها طوال حَياته ، يَتحوّل مع نهاية الرحلة إلى شخص آخر يؤمن بأنه مُعرّض لمُخطط اغتيال ، ويُحاول حِماية نفسه والهرب من كل هذا .
شبح الرأسمالية ، كما وَصف كرونينبيرج الأمر ، هو المُحَرّك الرئيسي لكافة أحداث العَمَل ، كيف أصبح الناس في القرن الواحد والعشرين ؟ ، إلى أي حد صار استعدادهم التماهي مع الفوضى ؟ ، وأين سَيَصل بنا كل هذا الجنون الذي يُحيط بنا ؟ ، مَصَّاصِين دِماء وقَتَلة رُبما
وبتلك الصورة ، هل كان اختيار كرونينبيرج للممثل روبرت باتنسون ، بَطل أشهر أعمال مصاصي الدّماء خلال الألفية ، مُجرّد صُدفة ؟ أم أنه الخِيار المُعبّر بشكل حَقيقي عن رؤيته للأمرِ كاملاً ؟
"كان الأمر مُلهماً ، كُنت أرى مَصَّاصِي الدماء في كُل مكان ، ولذلك لم تستغرق كتابة السيناريو أكثر من ستّة أيام" .. المخرج ديفيد كرونينبيرج/مهرجان كان 2012
استقبل الفيلم بشكلٍ فاتِر من النقاد عند عرضه في المهرجان ، ورغم اتفاقهم مع رؤيته الفكرية اليساريّة المُتطرّفة ، درجة قراءة "البيان الشيوعي" لكارل ماركس ضمن أحداث العَمَل ، إلا أن تِلك كانت المُشكلة أيضاً ، حيث وُصِفَ بالمُباشرة الساذجة في بعضِ الأحيان ، وأنه كان مُنعدم الروح وبطئ لدرجة انشغال المشاهدين عن الأحداث في الكثير من اللحظات ، وفي النهاية يشعرون بأن الفيلمِ أجْوَف ولا يَصِل بهم إلى شيء .
سيُفتتح الفيلم تجارياً في سبتمبر المُقبل ، وتبعاً لمقالات النقاد المبدئية ، فهو أسوأ أفلام ديفيد كرونينبيرج منذ خمسة عشر عاماً على الأقل ، ورغم الآمال التي عُلّقت عليه عند الإعلان عن منافسته في كان ، فإن المؤكد الآن هو خروجه خالِي الوِفاض من المُنافسة ، وأن رحلة التحوُّل ضَلّت طريقها هذه المرّة .