الممر .. دراما حربية وألغام سينمائية

افتقد كثيرًا في بوسترات أفلامنا العبارة الدعائية (slogan) ذلك التقليد المتبع في هوليوود الغرب، وربما يأتي امتناع أهل هوليوود الشرق عن الاهتمام بتلك العبارة البلاغية لحرصهم وخوفهم الشديد من حرق أحداث الفيلم، لذلك ركز إعلان فيلم الممر على جملة أحمد عز الذي جسد شخصية الرائد نور “إحنا مش هندافع.. إحنا هنهاجم” تعويضًا عن عدم كتابة سلوجن خاص بالفيلم، وعلى الرغم من استحواذ تلك اللقطة على رضائي عن غياب العبارة الدعائية، فإنني كنت أتمنى أن يكون سلوجن الفيلم " الانكسار والانتصار " لما فيه من تلخيص عام لكل أحداث الفيلم، والهدف حتى من حرب الاستنزاف حيث أنها الممر ما بين انكسار يونيو وانتصار أكتوبر ناهيك عن القافية بين اللفظتين انكسار وانتصار.

تكمن عبقرية اسم الفيلم في أنه مفسر عام لحرب الاستنزاف، وخاص للفيلم كونه صورة سينمائية.. فمن حيث المضمون كانت ضالة المجتمع المصري هي إيجاد مسار صحيح، بين النكسة والانتصار فكانت حرب الاستنزاف الممر الحقيقي للنصر، وسينمائيًّا كان الممر الذي ستقوم المجموعة بفتحه وسط دبابات العدو الاسرائيلي في طريقها للعودة بعد نجاح عمليتهم. تعرض الفيلم للنقد الصريح والنزيه لمعطيات تلك الفترة من خلال بعض الصور التي عبرت عن مدى بؤس فترة ما قبل النكسة مباشرةً، التراخي والإهمال وغياب صوت العقل في تلك الفترة من القيادات التي كانت تحكم وتقود الدولة والجيش -المشير والرئيس- ففي اجتماع مجلس الحرب الصهيوني وهو يستعرض صور الطيارات المصرية الموجودة على الأرض بدون بناء دشم حمايةً لها، لهو دليل على استهتار القيادة وقتها بعدو لا يحترم عهود أو مواثيق السلم فكيف تأمن غدره وقت الحرب! وكان مشهد وصول دفعة من المجندين بزيهم المدني مباشرةً للجبهة واعتراض الرائد (نور) على إرسالهم من مناطق التعبئة والتجنيد بهذه الصورة بدون أي تدريب بغية تحويلهم لعسكريين، توضح مدى سوء التخطيط والحقيقة أن هذه اللقطة ساهمت في تفسير مقولة “إحنا ملحقناش نحارب عشان ننهزم!” ولكن بعد حدوث العدوان الاسرائيلي وضح غياب التخطيط وليس سوءه فقط! عندما طلبت القيادة من القوات المصرية الانسحاب مع عدم وجود أي خطط للانسحاب.. أنا لا أعلم كيف يرفض البعض تسميتها نكسة رغم كل هذه المآسي!

طال النقد أيضًا من الصحافة وقتها والتي مثلها في الفيلم شخصية إحسان (أحمد رزق)، فأثناء قيامه بمرافقة المجموعة القتالية لتغطية العلمية العسكرية وكتابة بعض القصص الصحفية عنهم كان رد المجموعة على أسئلته دومًا: “أنت هتنشر اللي هنقوله ولا هتغير فيه وتسمع كلام الناس اللي فوق؟ وهي جملة عبرت عن غياب الثقة بين المجتمع وبين القيادات السياسية بوسائل إعلامها “القومية” التي تنطق بلسان النظام ولا تنطق بلسان المجتمع، وهنا واجب علينا تذكر مآساة إذاعة صوت العرب ومذيعيها المشهور “أحمد سعيد” الذي ألقى مئات البيانات الكاذبة وقت النكسة من أننا نحقق انتصارات ومعجزات عسكرية على أرض سيناء في الوقت الذي كنا لا نملك فيه حتى خطة انسحاب! استمر النقد ولكن هذه المرة على لسان الناس العادية، ففي مشهد السنترال وهو من المشاهد المفزعة لي كوني مُشاهدًا، الخناقة التي دارت بين الرائد نور وموظف السنترال (حجاج عبدالعظيم) وبعض المواطنين، والتي شهدت سخرية المواطنين من هزيمة الجيش ومن عزل القيادة السياسية للناس عن أي أخبار أو تفاصيل عن الصراع القائم بيننا وبين العدو الصهيوني، واكتفاءها بشحن الناس بالأغاني والهتافات الحماسية والتي لخصها قول العظيم نزار قباني تعليقًا على أحداث نكسة يونيو: “خسرنا الحرب لا غرابة.. لأننا ندخلها بمنطق الطبلة والربابة!” انتهى مشهد السنترال بتدخل أحد ضباط الشرطة المصرية (شريف منير) المنوط بها تحقيق السلام الداخلي، شارحًا للرائد نور أن المصريين يستخدمون السخرية علاجًا لكل همومهم حتى لو تطلب الأمر بالسخرية من أنفسهم، وسرعان ما أدرك الرائد نور أنه ليس وحده الموجوع من الهزيمة فاعتذر للمواطنين على انفعاله عليهم لفظًا وفعلًا.. وأعقب هذا المشهد بيان اعتذار من أعلى قيادة سياسية وعسكرية “الرئيس عبدالناصر” الذي أعلن فيه تحمله المسئولية كاملة وعرض التنحي عن الحكم. وآخر صور النقد كانت عند بداية التدريب ولم شمل الجيش مجددًا كانت إبداء الضابط رمزي (أحمد صلاح حسني) اعتراضه على حالة الأفراد والمعدات وقوبل هذا الاعتراض بترحيب من المقدم نور معللًا ترحيبه المفاجئ لرمزي بأن عدم ذكر الحقيقة هو السبب في الانتكاسة التي لحقت بالجيش. شهدت تلك الفترة العديد من البطولات التي تقاسمها الشعب والجيش سويًّا، فبعد النكسة ظلت القوات المصرية سبع سنوات حتى بداية حرب أكتوبر المجيدة في حالة تأهب واستعداد تخللتها معارك الاستنزاف، وطوال هذه الفترة كان هناك العديد من الجنود والضباط المرتبطين ومنهم من كان على وشك الزواج والذي رفض ذووهم فك الارتباط والرضى بالانتظار حتى وهُم لا يعلمون متى ستنتهي تلك الفترة الكبيسة التي تمر بها البلاد، فجاء مشهد رفض خطيبة العسكري أحمد (محمد الشرنوبي) لفسخ الخطوبة حقيقي جدًّا ومثال على تضحية أحمد الذي قرر أن لا يربط مصيرها بمصيره المجهول. لم ينسَ شريف عرفة أيضًا أن يظهر أهم سلاح يمتلكه الجيش المصري حتى الآن وهو الروح القتالية، وذلك في مشهد العسكري الصعيدي هلال (محمد فراج) والذي واجه طيارات الصهاينة الهيليكوبتر ببندقيته ليوصل رسالة للعدو أننا لا نخاف.

حرص شريف عرفة مخرج ومؤلف العمل على استخدام بعض الكلمات والمصطلحات العسكرية (إبرار – الزي المموه – الزي الزراعي – الزي الرملي) بهدف إثراء الثقافة العسكرية للمشاهد، أيضًا ساهم التدريب الذي تلقاه الممثلون في مدرسة الصاعقة المصرية بالجيش المصري على ظهورهم بمستوى قريب جدًّا من مستوى المقاتلين الحقيقيين، ويظهر ذلك في طريقة تعاملهم مع السلاح والمشية العسكرية ناهيك عن المستوى المبهر للإشارة في الميدان التي تستخدمها القوات بشكل دائم عوضًا عن الكلام أثناء العمليات. كانت المعركة الأخيرة بين المجموعة القتالية المصرية وقوات العدو الصهيوني مبتكرة ومليئة بالكادرات الواسعة، وهذا إن دل على شيء فيدل على مدى الجهد المبذول في التدريب على تنفيذ تلك المشاهد بلقطات متصلة لأكبر وقت ممكن أو ما يعرف بتقنية الـ (one shot) ولكن أمام كل هذا الاهتمام بالشكل لم يغفل شريف عرفة أن يهتم بأحد أبرز عقائد أفراد الجيش المصري عندما أفاق العسكري هلال من الإغماءة البسيطة التي تعرض لها عقب سقوطه من أحد المباني القريبة من الأرض التي تلقت قذيفة دبابة إسرائيلية، انتفض وكان أول همه هو البحث عن سلاحه ليصور لنا مقولة سلاحي لا اتركه قط حتى أذوق الموت. وفيما يخص الكوميديا في الفيلم فيحسب لشريف عرفة عدم استغلاله لشخصية هلال العسكري في السخرية من لهجته الصعيدية البكر أو شهامته المفرطة الممزوجة بإعجاب وحب مع فرحة البدوية، حتى مشهد ضرب هلال الأسير الإسرائيلي (إياد نصار) جاء بشكلٍ عفوي جدًّا وغير مصطنع بعكس كوميديا إحسان التي سنتناولها فيما بعد. حمل الفيلم الكثير من الرسائل للمجتمع وللقيادات السياسية كان أبرزها حديث المقدم نور العابر عن سيناء وأنها لم تنل نصيبها من التنمية والإعمار، والتأكيد على وطنية البدو وإبراز تعاونهم مع القوات المسلحة كان من خلال شخصية أبو رقيبة (محمد جمعة) والذي رفض العودة مع المجموعة بعد إتمام عمليتها بنجاح للضفة الغربية للقناة واختار العودة لأرضه وأهله رغم أنها ما زالت تحت الاحتلال الصهيوني. وعلى عكس الكثير من الأفلام الحربية التي نشاهد فيها حرص المقاتلين على اصطحاب جثث الشهداء من زملائهم أثناء العودة من العمليات، حمل مشهد دفن شهداء المجموعة القتالية المصرية في أرض سيناء رسالة مفادها أن سيناء أرضنا وسنعود إليها قريبًا ولن يحوم أي غرباء حول قبورهم.

وكان الخيط الرومانسي بين العسكري هلال والبدوية فرحة (أسماء أبو اليزيد) شقيقة أبو رقيبة رغم شبهة الكليشيهية التي قد تشوبه، فإنه حمل رسالة هامة “أن الحياة لابد أن تستمر، نحب ونتزوج ونحلم حتى في أحلك الأوقات وأكد ذلك طلب هلال ليد فرحة أثناء رحلة رجوعهم من موقع العملية في ظل أجواء متوترة وترقب قدوم قوات إسرائيلية لمطاردة المجموعة المنفذة للعملية. حملت شخصية الصحفي سؤالًا هامًّا جدًّا وجهه – سينمائيًا – لأبطال الفيلم عندما سألهم مرتين كيف تظهرون بهذه الروح القتالية العالية والشجاعة والإقدام وقد هزمنا في الخامس من يونيو؟! ولكنه في الحقيقة كان موجهًا لنا جميعًا مشاهدين وجنود وقادة ليبحث كلٌّ مع نفسه عن أسباب الهزيمة، ولا أعلم لو كنت قد عاصرت تلك الفترة هل كنت سأجد رابطًا ما بين هذا السؤال وبين كلمات المقدم نور في نهاية الفيلم قبيل نزول تتر النهاية عندما قال: “نبص على ماضينا بس عشان منكررش أخطاءنا، وإننا بالحب والعلم هنقدر نبني وننتصر.” لا تسعفني مخيلتي في ابتكار مشهد مختلف عن مشهد عراك المقدم نور والضابط الإسرائيلي (إياد نصار) بالأيدي وبالكلام بعدما جاء مطابقًا لمشهد العراك بالأيدي.. والكلام أيضًا بين الضابط مصطفى (كريم عبدالعزيز) ودانييل (شريف منير) في فيلم ولاد العم الذي أخرجه أيضًا شريف عرفة فأجد نفسي غير قادرٍ على أخذ هذه الملاحظة ضد شريف عرفه، ولكني في نفس الوقت لا أستطيع الصمت عنها. ولكن عند الحديث عن المآخذ والأخطاء على شريف عرفة، فإنه يلزم ذكر مشهد تفجير المقدم نور لسيارات القوة الإسرائيلية في حقل ألغام حتى لا يبدو هلاكهم بفعل فاعل وغير كاشف لوجود قوة مصرية في سيناء في طريقها لتنفيذ أي مهام، كان المأخذ هنا هو طريقة تنفيذ المشهد حيث اقتصر على لقطات ضيقة تفتقر للتفاصيل التي تضفي على المشهد ثراءً بصريًّا مطلوبًا في الأفلام الحربية. أما فيما يخص مشهدي الاتصال بين المجموعات القتالية ومركز العمليات فلا أعلم الحقيقة هل هكذا تتم الاتصالات في الواقع بين أية قوات ومركز العمليات خاصةً إذا كانت القوات خلف خطوط العدو، ما أقصده هو الصراحة والوضوح في ذكر القوة لاكتشافهم وجود أسرى مصريين محتجزين بالموقع المستهدف تفجيره أثناء الاتصال وما أعقب ذلك من محاولة إقناع المقدم نور للقادة بضرورة الاستمرار في التنفيذ، كل ذلك يتم خلف خطوط العدو وفي مناطق تحت سيطرته أرضًا وجوًّا، والمعروف أن سلاح الاتصالات بالجيش يسمى بسلاح “الإشارة” لأنه يعتمد على الإشارات والشفرات والترميز أثناء التحدث مباشرةً في أجهزة اللاسلكي اتقاء لأي محاولات اعتراض وتصنت تحدث بشكلٍ اعتيادي من العدو مما يعرض القوات للانكشاف. ولكن كل هذا قد يهون إذا ما نظرنا إلى شخصية إحسان “الخط الكوميدي الرئيسي في الفيلم” والذي تشعر معه من أول وهلة أن شريف عرفة قام باستحضار شخصية رأفت من فيلم مافيا كما هي، مفهوم طبعًا أن ما تنطوي عليه شخصية إحسان الكوميدية من بعض السذاجة كانت من أجل صنع بعض العراقيل للأبطال في رحلتهم لتنفيذ العملية المكلفين بها، ولكن كانت كوميديا مبالغ فيها بعض الشيء وأحدثت خللًا واضحًا في إيقاع الفيلم خاصةً في مشهد المعركة الأخيرة وإظهار خوف إحسان وإفيهاته غير المبررة والدخيلة على جدية وخطورة المعركة، وهنا نتساءل هل وضع المنتج والمخرج في حسبانهم مسألة عرض الفيلم في العيد وما يتطلبه العيد من استجداء رضا الجمهور بهذه الإفيهات والنكات؟ تبًا للحسابات التجارية! ولكن تبقى تجربة الممر جديرة بالاحتفاء والثناء بعدما انقطعنا طويلًا عن إنتاج أفلام حربية (حقيقية)، وأن تكون التجربة بهذا المستوى بعد كل هذا الغياب وأخيرًا فإن من حسن حظ صناع الفيلم أن أول أيام عيد الفطر كانت الخامس من يونيو ذكرى نكسة 1967.