البارجة بوتمكين.. خَمر مُعَتَّقة تتضاعف لذتها عامًا بعد عام

  • مقال
  • 05:10 مساءً - 11 يونيو 2014
  • 3 صور



صورة 1 / 3:
Battleship Potemkin
صورة 2 / 3:
Battleship Potemkin
صورة 3 / 3:
Battleship Potemkin

ضمن عروض برنامج ورشة "كراسات السيماتك" في سينما زاوية، عُرض أمس الفيلم الروسي الصامت البارجة بوتمكين إنتاج عام 1925.الفيلم الذى على الرغم من تقادمه وصورته المغبشة لايزال مُزلزلًا كما عرض أول مره منذ 89 عامًا.

لم يقم أى عمل بتمجيد الثورة العُمَّالية التى اندلعت فى روسيا عام 1905 ضد نظام الإقطاع والتي قادت إلى الثورة البلشفية بعد ذلك عام 1917 مثلما مجّدها المخرج سيرجي إيزنشتين بهذا الفيلم. الأحداث تدور فى العام 1905، أي قبل قيام ثورة البلاشفة بـ12 عام كاملة، لكن جُملة الإسقاطات التى حُملت بها القصة - المأخوذة من وقائع حقيقية - واضح أنها تؤيد بشدة كل ما فعله البلاشفة فى ثورة عام 1917 الشهيرة التي غيرت مجرى تاريخ العالم كله. التمرد الذى قام به البحارة المطحونين ضد قادتهم على ظهر السفينة الحربية بوتمكين والذى دعمهم فيه من على البر سكان سان بطرسبرج من فقراء ومهضومين وضح للجميع أن المبادئ الأولى التي قامت من أجلها الثورة لم تكن خاطئة تمامًا كما شوِّهت بعد ذلك. لذا أيٌ ما كان موقفك من الشيوعية - سواء كنت رافضًا أو مؤيدًا - لن تستطيع إنكار أن الفيلم استطاع أن يبرز أفضل ما تنص عليه مبادئها، وركز بشده على فلسفة "الكل للفرد والفرد للكل" التى هي أساس الفكر الشيوعي.

القصة تحكي عن بحارة البارجة بوتمكين الذين يعيشون فى أسوء الظروف المادية والاجتماعية والصحية الممكنة. الرواتب شحيحة، واللحم المُقدم لهم يضرب فيه العفن وتسرح فيه الديدان بحُرِّيَة، ينامون متلاصقين كالخنازير فى حجرات عديمة التهوية، بينما ينعم القبطان وضباط السفينة بكل وسائل الراحة والرفاهية. هذه الصورة وهذا المجتمع المصغر الذى يغلي من الداخل هو فى واقع الحال يعكس ظروف القيصرية الروسية كلها وقتها. يشتكي البحارة من رداءة الطعام فيأتي طبيب السفينه ليُعاين اللحم، وهنا يستعرض لنا إيزنشتين فى لقطات مقربة شديدة التقزيز اللحم المُعلَّق وهو ينضح بما فيه من ديدان، ونجد الطبيب فى اللقطة التالية يُسفِّه من اعتراض البحارة ويعلن لهم أن اللحم سليم تمامًا ومناسب للأكل، ويسفسط كيف أن الديدان التى يشمئزون منها ليست إلا يرقات صغيره وكل ما عليهم هو أن يغسلوها من على اللحم ويأكلوه. يتطور الموقف سريعًا ويكاد ينذر بكارثة، لكن البحارة يكظمون غيظهم في اللحظة الأخيرة ولا يفعلون شيئًا سوى أن يرفضوا شرب الحساء الناتج عن غلي اللحم الفاسد ويذهبوا لمخزن السفينة ليشتروا من أموالهم القليلة معلبات صالحة للأكل، ليفاجئوا فى اليوم التالي أن القبطان يأمر بإعدام كل من رفض تناول الحساء، لتكون هذه هي القشة التى قسمت ظهر البعير، وتحدث انتفاضة قبل تنفيذ الحكم المُجحف ويتمرد البحارة على قادتهم ويلقوا بهم إلى الماء.. أثناء المعركة يصاب قائد التمرد بعيار ناري ويقتل، فيقوم البحارة - الذين قاموا بالسيطرة على السفينة الآن - بإرسال جثته إلى البر مع وضع عبارة على صدره تقول: "قُتل من أجل طبق حساء".

تكسب جثة البحار المقتول تعاطف آلاف من مواطني سان بطرسبرج الذين يتدفقون بأعدادٍ غفيرة إلى ميناء الأوديسة المتاخم لموقع رسو البارجة فى مجموعه من المشاهد لن تصدقها ما لم ترها، صنعت بقدر هائل من الشحن العاطفي. ثم يأتي تتابع المذبحة الشهير على مدرجات ميناء الأوديسة مِن قِبَل جنود القيصر الذين قاموا بفتح النيران على الألاف من المواطنين الأبرياء وصرعوهم دون تمييز، ودون أن يعرف المواطنين بأي ذنب قتلوا. المشهد صادم تمامًا وذو تأثير كاسح ومازال يمنح القشعريرة إلى يومنا هذا.. تتابع رهيب لإمرأه يسقط طفلها إثر عيار نارى وتقوم الأقدام بهرسه حرفيًا فى لقطات مقربة شديدة الوطء، وأخر لإمرأة تجر عربة طفل يتم صيدها كحيوان لتترك العربه وبداخلها الرضيع تلقي مصيرها المشئوم على سلالم الأوديسة، ناهيك عن حركات الـ Travelling المذهلة التى نفذها إيزنشتين ببراعة مقتفيًا أثر الجموع المُهرولة على السلالم. تنتهي المذبحة وتصل أسماعها للبحارة على البارجة فى وسط المياه، فيقومون بعمل انتقامى ضد مبنى الأوبرا فى وسط المدينة ويقصفوه بالمدفعية الثقيلة حتى يدكوه تمامًا، ليخرج على أثر ذلك أسطول كامل بمهمة واحده هى إغراق البارجة بوتمكين، لتأتي بعد ذلك النهاية المفاجأة للفيلم والتى تضع حدًا غير متوقع لهذه الأحداث اللاهثة.

العمل فى المجمل قطعة أستاذية من الصعب أن تتكرر وبرهان حقيقى على عبقرية إيزنشتين.. وهو درس مكثف فى كل فنون الإخراج جعل صناع الأفلام في العالم كله يتدارسونه داخل المعاهد وخارجها، فهو لا يعد مجرد صراع أيديولوجي بين اليمين واليسار، بل هو عمل واجب الرؤية لأي عاشق للسينما على هذا الكوكب أيًا كان انتماؤه الفكري. الفيلم ملحمة عن الكفاح والتضحية، عن رفض الظلم وإعلان الثورة فى وجه الظالمين، عن الشجاعة والإقبال على الموت من أجل مبدأ، وفوق كل هذا عن صانع الفيلم نفسه الذى قدّم قوالب جديدة وثورية تمامًا، وعزف سيمفونية سحر مازال صداها يتردد إلى الآن.

البارجة بوتمكين سيظل واحدًا من أكثر الأفلام خلودًا على مر التاريخ.. وهو يزداد جمالًا عامًا بعد عام، وعقدًا بعد عقد، مثل ما يحدث مع الخمر المُعتَّقة.



تعليقات