Birdman.. العودة إلى السماء!

  • مقال
  • 12:39 مساءً - 8 مارس 2015
  • 1 صورة



Birdman - 2014

- «هل حصلت على ما أردته من هذه الحياة؟»
- «أجل.»
- «وما الذي أردته؟»
- «أن أقول أنني محبوب، أن أشعر أنني محبوب على هذه الأرض.»

ريموند كارفر

***

ما تزال الأفلام محتفظة بقدرتها على إصابتي بالدهشة بين الحين والآخر، وخاصة عندما تكون على هذا المستوى العظيم من الصنعة والإتقان. هذا الأمر هو ما يزيد من اقتناعي التام بعظمة السينما، وإيماني بقدرتها الدائمة على التجدد والتعبير عن النفس البشرية والوصول إلى مناطق لم يبلغها أحد من قبل.

دائمًا ما اعتبرت المكسيكي أليخاندرو جونزاليس إناريتو أحد أهم المخرجين الذين تواجدوا على الساحة في العقد الأخير، الرجل هو بلا شك أحد أساتذة الدراما النفسية التي تصور معاناة البشر وتعبر عنها ببراعة منقطعة النظير.

والمثير للاهتمام هنا في فيلمه Birdman أنه لا يكتفي بالأسلوب المعروف عنه في أفلامه السابقة، بل وربما يبتعد عنه إلى حد ما بشكل ينقل التجربة إلى بعد آخر، فيقدم هنا تجربة بصرية مذهلة تغلفها دراما واقعية في قالب من الكوميديا السوداء التي تنضح بسخرية مريرة.

تقول الأسطورة الإغريقية أن ديدالوس صنع لابنه إيكاروس أجنحة من الريش، ثم لصقها إلى ظهره عن طريق الشمع حتى يستطيع الطيران، ولكنه حذره في الوقت نفسه ألا يقترب من الشمس كثيرًا، إيكاروس لم يمتثل لأوامر أبيه، وظل يطير ويحلق مرتفعًا متخيلًا أنه حاز على المجد وأن أحدًا لن يوقفه عن تحقيق كل ما يريد، وسرعان ما أذابت حرارة الشمس الشمع الذي يثبت الجناحين إلى جسده، ليهوي في البحر غريقًا.

***

«أتعرفين أن فرح فاوست ماتت في نفس اليوم الذي مات فيه مايكل جاكسون؟»

هكذا يلخص "ريجان تومسون" مأساته في صيغة هذا السؤال الاستنكاري، إنه ذلك الممثل الذي جرفه تيار النسيان بعيدًا عن شواطئ الشهرة والنجاح، بعد أن كان في يوم من الأيام ملء السمع والبصر ويرفرف بجناحيه فوق القمة.

الآن بعد مرور عشرين عامًا على آخر أفلامه في زي البطل الخارق بيردمان، وبعد أن مضى به العمر إلى محطاته الأخيرة، يحاول يائسًا أن يجتذب الأنظار مجددًا، أن يبرهن للجميع -وهو نفسه في مقدمتهم- أنه كان يستحق الكثير من التقدير الذي لم ينله، أن يثبت أن بداخله فنانًا حقيقيًا وليس فقط تلك الشخصية الخارقة التي استحوذت على كيانه ثم دمرت حياته بعدها، أن يتذكره الناس بعد رحيله فلا يغادر في صمت دون أن يكترث لأمره أحد. لقد منحه بيردمان الفرصة لكي يلامس الشمس بجناحيه تمامًا مثل إيكاروس، ولكنه على المنوال نفسه سرعان ما هوى من حالق بعد أن احترق جناحيه وانتهى أمره.

فهل يستطيع "ريجان" أن ينجو من الغرق ويحلق مجددًا، وأن يتذوق طعم النجاح والشهرة في محاولة هي الأخيرة في مشواره للعودة تحت الأضواء؟ بحسبة بسيطة يجد الرجل نفسه أمام معادلة واحدة فقط، فإما النجاح هذه المرة أو خسارة كل شيء إلى الأبد.

يبدأ الفيلم بـ"ريجان" طافيًا في الهواء داخل غرفته بأحد مسارح برودواي العتيقة، قرر "ريجان" أن يقدم معالجة جديدة لقصة الكاتب ريموند كارفر القصيرة "عن ماذا نتحدث عندما نتحدث عن الحب؟". يقوم "ريجان" بالكتابة والإخراج والمشاركة في البطولة أيضًا، ونكتشف سريعًا أن الحد الفاصل بين الواقع والوهم قد تلاشى تقريبًا في عالم "ريجان تومسون"، فمن الواضح أن قدراته الخارقة السابقة تخطت حدود شاشة السينما وانتقلت إلى عالم الواقع، كما أن صوت بيردمان لا يفارق رأسه متحسرًا على الأيام الخوالي، وساخرًا من الممثلين الذين كان هو سببًا في تمهيد الطريق أمام نجاح أفلامهم من عالم الروايات المصورة بالرغم من عدم تمتعهم بالموهبة الكبيرة.

تشعر من البداية أن "ريجان" لا يمتلك الثقة الكافية في قدرته على النجاح، وصوت بيردمان لا ينفك يخبره بأن السبيل الوحيد للعودة إلى المجد لن يكون إلا من خلال تجسيده للبطل الخارق مرة أخرى. كما يبدو واضحًا أن الرجل يبحث عن كبريائه المفقودة، وعن تلك السمعة التي فقدها منذ زمن؛ لذلك فهو ببساطة يتعامل مع من حوله بوصفهم جميعًا يدورون في فلكه الخاص.

تبدو الأمور في طريقها نحو كارثة محققة مع اقتراب موعد افتتاح المسرحية؛ حيث لم يتبق سوى ثلاثة عروض تجريبية فحسب على ذلك. يصاب أحد ممثلي العرض في حادث، وهو ما يلقى هوى في نفس "ريجان"؛ لأنه كان يراه ممثلًا ضعيفًا ويرغب في الخلاص منه. يستبدلونه بالممثل المتعجرف "مايك شاينر" الذي يناطح "ريجان" منذ اللحظة الأولى، الرجل موهوب بحق ولكنه لا يجيد التعامل مع من حوله، ربما هو الآخر لا يرى في المسرحية سوى وسيلة للعودة تحت الأضواء.

تظهر علاقة "ريجان" متوترة بابنته "سام"، ابنته التي خرجت لتوها من مصحة الإدمان وتساعد أبيها في المسرح، والتي كثيرًا ما عانت في حياتها من انشغال الأب وتجاهله وغيابه الدائم. تخبره "سام" في واحد من أفضل مشاهد الفيلم بأنه ليس هناك من يهتم به أو بمسرحيته تلك، وأنه لم يعد شخصًا مهمًا بعد أن مضى به الزمن إلى عالم مختلف، عالم من المدونات ومواقع التواصل الاجتماعي، بينما يعيش هو في الماضي، ويظن أن مسرحية ما قد تنقذ مسيرته الفنية. تبدو الفتاة حزينة على حال أبيها أكثر من حنقها منه، أما "ريجان" نفسه فيستمع صامتًا للكلام الذي من المؤكد أنه راوده في أعماق نفسه.

يأتي أفضل مشاهد الفيلم من وجهة نظري بين "ريجان" والناقدة "تابيثا ديكنسون"، المرأة تكره كل ما يمثله "ريجان تومسون"، ولا تراه ممثلًا من الأساس بل مجرد رجل شهير، وتتوعده بتدمير سمعة عرضه عن طريق المقالة التي سوف تكتبها عنه، أما هو فلا يراها ناقدة سوى لأنها فشلت في أن تكون شيئًا آخر، وأنها لا تجيد سوى إصباغ الصفات على الأشياء دون النظر إلى حقيقة مكنونها.

امتلك إناريتو فكرة تصوير الفيلم كلقطة واحدة طويلة منذ البداية، ولكن هذا كان يتطلب طرقًا غير تقليدية في التحضير للفيلم أو خلال مرحلة الإنتاج، والأهم أن ذلك يتطلب سيناريو من نوع خاص، يعرف جيدًا موضع كل لقطة وكل كادر سيتم تصويره واستخدامه في الفيلم، لذلك لا عجب في أن كتابة السيناريو استغرقت ما يقرب من عامين كاملين. أضف إلى ذلك أن طاقم الفيلم خاض عدة أسابيع مرهقة من التدريبات والتحضيرات قبل بدء التصوير؛ هذا بالطبع لأنك لن تستطيع تصوير ما يحلو لك ثم تتدارك الأمور من خلال المونتاج، والذي استغرق الانتهاء منه بالمناسبة أسبوعين فحسب، فأنت أولًا وأخيرًا محكوم بلقطة واحدة طويلة لا مجال فيها لأي قطع ظاهر.

هذا التصوير العظيم الذي يحقق الرؤية التي وضعها إناريتو يقف وراءه مدير التصوير المبدع إيمانويل لوبزكي، ذلك الرجل الذي دائمًا ما يقدم أفلامًا ثورية على مستوى الصورة السينمائية. اختيار التصوير بتلك الكيفية لم يكن أيضًا على سبيل الحذلقة واستعراض العضلات، بل أراه جاء معبرًا ببراعة عن روح الفيلم وشخصية البطل التي تتمركز كليًا حول الأنا. لذلك أراد إناريتو التعبير عن ذلك من خلال تجربة ذاتية، فالأمر يتخطى مجرد متابعة الشخصية، ويقفز إلى كونك تشعر وتفكر من خلال عقل البطل ذاته، الذي يرى الآخرين غالبًا مجرد إضافات في حياته ربما لا تستحق أن تتوقف عندها كثيرًا أو تتمعن فيها. هذا هو ما حققه إناريتو بحركة الكاميرا التي لا تترك لك لحظة لالتقاط الأنفاس بين مشهد وآخر.

الأداء التمثيلي من الجميع كان ممتازًا في المجمل، وساعدهم بالطبع أن الشخصيات كلها مرسومة بشكل رائع في السيناريو. يعود مايكل كيتون بعد غياب طويل ليقدم أداءً عظيمًا هو الأفضل في مسيرته، دون إغفال الرمزية الكبيرة التي يعطيها اختياره لأداء دور يتماس بشكل أو بآخر مع قصة حياته، إدوارد نورتون هو الآخر يتألق في دور الممثل صعب المراس "مايك شاينر" الذي لا يجد نفسه سوى فوق خشبة المسرح، ومجددًا دور آخر يتماس مع سمعة نورتون في هوليوود. الأداءات النسائية كانت هي الأخرى على مستوى الحدث، إيما ستون في دور الابنة المضطربة "سام" التي لا تبالي كثيرًا بما يدور حولها، ناعومي واتس في دور الممثلة الطموحة "ليزلي" التي تبحث عن النجاح في برودواي، أندريا رايسبورو في دور الممثلة "لورا" التي لا تدري حقًا ماذا تريد من حياتها، حتى ذلك الدور القصير الذي قدمته إيمي ريان في دور زوجة "ريجان" السابقة كان مؤثرًا.

لن أتناول النهاية التي تحتمل العديد من التأويلات، ليست تلك هي الغاية من الفيلم بالطبع، ويستطيع كل من شاهده أن يخرج بتفسيره الخاص دون أن ينتقص هذا من قدر الفيلم شيئًا.

وأخيرًا أحب أن أختم بهذه القصة، فقبل أن يبدأ أليخاندرو جونزاليس إناريتو تصوير الفيلم أرسل إلى طاقم العمل صورة فيليب بيتيت وهو يمشي على حبل رفيع يربط بين برجي التجارة العالمية، وخاطبهم قائلًا: "يا رفاق، هذا هو حال الفيلم الذي نصنعه، لو سقطنا نخسر كل شيء."

لقد ربحت الرهان يا أليخاندرو... وها هو Birdman يحلق في السماء!



تعليقات