التاريخ الخلَّاب لتطوُّر صناعة الـ «أنيماترونيكس» في الأفلام

  • مقال
  • 03:06 مساءً - 5 اغسطس 2015
  • 1 صورة



History of Animatronics

«عندما تعمل المؤثرات البصريَّة على خدمة القصة وتوُرِّطك معها، عندها يبدأ السحر الحقيقي.»

بيل سينكفتش، رسَّام قصص مصوَّرة

منذ ربع قرن مضى وأكثر تقريبًا، وقبل أن تٌرهِق هوليوود أبصارنا بالاستخدام المُفرط للـ CGI والخدع المُخلَّقة حاسوبيًّا، كان هناك عصرًا رائعًا تُصنع فيه المؤثرات البصريَّة بالطريقة الصعبة. شذرات من هذا العصر ما زالت موجودة إلى يومنا هذا، وتحارب بضراوة كي تظل موجودة، إلا أنها أصبحت فنًّا عتيقًا يستثقله صنَّاع السينما المعاصرين ويبدو أنه في طريقه إلى الانقراض، مثل ما حدث مع التحريك بإيقاف الكادر Stop Motion Animation قديمًا (اقرأ عنه من هنا). نتحدث هذه المرَّة عن أحد أهم فروع المؤثرات البصريَّة الفيزيائيَّة -إن لم يكن أهمها على الإطلاق-، عن الامتزاج الخلَّاب بين الفن والعلم والخيال الجامح والتقنيَّة الحديثة... عن العالم الخلَّاب لنماذج الأنيماترونيكس!

في البداية يجب أن نتعرف على ماهيَّة الأنيماترونيكس Animatronics... بإيجاز أتمنى ألَّا يكون مُخلًّا، يمكن تصنيف الأنيماترونيكس كفرع مُستقل تمامًا من فروع المؤثرات البصرية الخاصة العديدة والمتشعبة، وهو فرع يعمل على استخدام تكنولوجيا الإلكترونات المتطوِّرة في صنع نماذج آليَّة أو روبوتات بالحجم الطبيعي ودمجها في عرائس ضخمة، ثم تحريكها كمُحاكاة للكائنات الحية أمام الجمهور في المتنزَّهات أو في فيلم سينمائي. بمعنى آخر هي هياكل معدنيَّة على أشكال الكائنات أو المخلوقات المرغوب تنفيذها، يقوم المُصنِّع بتغطيتها بالجلد أو الشعر أو الفراء حسب نوع الكائن، ويقوم بطلائه بالألوان المطلوبة لكي تكتمل الشخصية في النهاية وتدخل موقع التصوير لتمثيل دورها في الفيلم، ويتم تحريكها عن بعد عن طريق برمجة مسبقة أو جهاز تحكُّم عن بعد «ريموت كنترول».

أخذت التكنولوجيا المستخدمة في صناعة الأنيماترونيكس في التطوُّر عبر السنين -منذ بدايتها في أوائل الستينيات- وحتى الآن، ممَّا جعل هذه الدُمى الضخمة ذات الحجم الطبيعي تبدو أكثر واقعيَّة بكثير وتُحاكي المخلوق الحي بنسبة كبيرة. يتميَّز فن الأنيماترونيكس عن الخدع المُخلَّقة حاسوبيًّا فى أنه ليس مُحاكاة وهمية للواقع تتم بعيدًا عن الكاميرا في غُرف مُغلقة ثم تُضاف إلى المشهد لاحقًا... وجود نموذج بالحجم الطبيعي يتحرَّك ويتفاعل مع الممثلين أمام الكاميرا في موقع التصوير لهو شيء آخر تمامًا... هذا جسم له وزن حقيقي، وتنعكس الإضاءة من على سطحه فعليًّا، ويلتزم بقوانين الجاذبية مثلنا تمامًا.

عادةً ما كانت تُستخدم نماذج الأنيماترونيكس في اللقطات المُقرَّبة أثناء تصوير مشاهد الوحوش، حيث كانت هناك حدودًا مُعيَّنة للاقتراب بالكاميرا من المخلوقات الرقمية المُخلَّقة حاسوبيًّا، وإذا تعدَّت الكاميرا هذه الحدود يفقد الكائن مصداقيَّته على الشاشة تمامًا (كان هذا في الماضي بالطبع، الآن تكنولوجيا التقاط الحركة Motion Capture المتطوِّرة مكَّنت من الاقتراب من المخلوقات الرقمية إلى أي حد يريده المخرج).

وكما تُستخدم نماذج الأنيماترونيكس في صناعة الأفلام، نجدها أيضًا في حدائق التسليَّة والترفيه حول العالم. كل ما تراه في بيت الرعب في الملاهي مثلًا، والشخصيَّات الخياليَّة في متنزَّهات ديزني لاند هي شكل من أشكال الأنيماترونيكس. وعلى الرغم من أن تلك النماذج كما نعرفها لم توجد قبل النصف الثاني من القرن العشرين، إلا أن التاريخ الحقيقي لها يعود إلى القرن السابع عشر، مع صانعي الساعات القدامى.

الساعات الميكانيكيَّة التي يعود تاريخها إلى ما قبل الثورة الصناعية في فرنسا كانت تتضمن شخصيات متحرِّكة صغيرة تبرز وتختفي من خلال جهاز حافظ للوقت لتعلن عن نهاية ساعة وبداية ساعة أخرى. ومثل نماذج الأنيماترونيكس الحديثة، فإن حركة هذه الشخصيات المُنمنمة كانت مُبرمجة عن طريق تروس ميكانيكية كي تتزامن مع ساعات بعينها (كالثانية عشر مثلًا). لاحقًا تم إدخال الصوت إلى تلك العرائس لجذب الانتباه أكثر، واستخدم صانعو الساعات شخصياتهم تلك ليحكوا قصصًا بسيطة.

بداية العصر الحديث للأنيماترونيكس كان في عام 1961، عندما بدأ والت ديزني بتطوير نماذج ميكانيكيَّة ليستخدمها في الترفيه وفي صناعة الأفلام. قام الرجل بمعاونة مُبتكريه بتخليق تمثالًا متحرِّكًا لرجل راقص بطول 23 سنتيمترًا كأول نموذج من نوعه، وعلى الرغم من أنه يبدو بدائيًّا بمقاييس اليوم، إلا أنه نجح في جذب اهتمام العامة وبشَّر بثورة الأنيماترونيكس التي أتت بعد ذلك.

يمكن تلخيص خطوات صناعة أي نموذج أنيماترونيك في النقاط التاليَّة:

1- رسم الشخصية على الورق أولًا للوقوف على شكل المخلوق الذي يريده المخرج. في هذه المرحلة يبدأ الرسامون بالتخطيطات الأوَّليِّة إلى أن يصلوا بالمخلوق لما قد تصوَّره المُخرج في ذهنه.

2- بناء ما يسمى بالـ (ماكيت Maquette)، وهو نموذج مُصغَّر للمخلوق. يتم صنع هذا النموذج من البلاستيك غالبًا، ويشبه إلى حدٍ كبير لعب الأطفال التي تُطرح لمخلوقات الفيلم في الأسواق بعد عرضه.

3- بناء منحوت ضخم بالحجم الطبيعي اعتمادًا على الـ (ماكيت) المُصغَّر.

4- صنع قالب مطاطي مرن من المنحوت السابق ليستخدم كغطاء خارجي للروبوت مُمثِّلًا الجلد أو الشعر حسب طبيعة المخلوق.

5- بناء الهيكل المعدني (الروبوت) الذى سيتم كساؤه بالغطاء الجلدي. هذا الروبوت هو الذي سيقوم بعملية الحركة بشكلٍ كامل عن طريق مُحرِّكين يتحكَّمون فيه.

6- وضع كل هذه الأجزاء معًا.

7- اختبار النموذج للوقوف على مدى جودة أدائه، ونقاط القوَّة والضعف فيه.

8- نقل النموذج إلى مكان التصوير لتمثيل دوره في الفيلم.

بالطبع أدَّى التطوُّر الدائم في صناعة الروبوتات، والبرمجة، والنماذج الأوَّليِّة بعد ذلك في جعل شخصيات الأنيماترونيكس أكثر حيوية من أي وقتٍ مضى. التحكُّم في النماذج بات قادرًا على خلق حركة طبيعية للغاية وتخدع العين بشكلٍ كامل. وبفضل الأنيماترونيك، استطاع صنَّاع السينما الحديثة من تقديم مخلوقات وشخصيات لها وزن ووجود فيزيائي ملموسًا للغاية. وعلى الرغم من أن التطوُّر المذهل في الخدع الرقميَّة مكَّن صنَّاع الأفلام من تقديم مشاهد يستحيل تخليقها على أرض الواقع، إلا أنه لا يوجد حتى الآن أفضل من فيلم يقوم بالتمثيل فيه نموذج أنيماترونيك.

هذه الشخصيات الآليَّة لها حضور طاغٍ، فهم كما ذكرت يحتلون مساحة حقيقية من الفراغ، ويتفاعل معهم الممثلون بطريقة لا يمكن تحقيقها مع المؤثرات الحاسوبية التي تُجبر الممثل على التمثيل مع كُرة وهمية في الفراغ على أن يضاف الوحش لاحقًا. ولذا فإن النتيجة النهائية للشخصيات المُخلَّقة حاسوبيًّا مهما كانت بارعة، لا يمكنها أن تُضاهي براعة نماذج الأنيماترونيكس... لأن الأخيرة حقيقيَّة تمامًا كالممثلين أنفسهم.

وعلى الرغم من أن خدع الـ CGI أخذت في استبدال صناعة الأنيماتروينكس وقلَّصت من وجودها، إلا أن ستديوهات بعينها ومخرجين بعينهم بدأوا يعودون للتقنيَّة مرةً أخرى، ولو بشكل محدود. شاهدنا هذا مؤخرًا في مشهد وحيد من فيلم Jurassic World (الذي للمُفارقة صنعت كل مخلوقات جزئه الأول بشكل ميكانيكي)، لكن برغم كل شيء ستظل آلات الأنيماترونيكس الرصينة هي التي تُخلَّد في أذهان المشاهدين، وتستطيع اجتياز اختبار الزمن بنجاحٍ تام.

link]

الآن تعال لنتعرَّف على أشهر 5 مخلوقات أنيماترونيكس صُنعت في تاريخ الأفلام:

الفك المفترس

من فيلم Jaws للمخرج ستيفن سبيلبرج يأتي واحدًا من أشهر نماذج الأنيماترونيكس شهرة (وليس براعة)... القرش الأبيض العظيم أو الفك المفترس. تم صنع ثلاثة قروش بالحجم الطبيعي بطول 24 قدمًا للواحد وبتكلفة 250 ألف دولار، كلٍ منهم كان يؤدي وظيفة مختلفة. أطلق سبيلبرج علي النموذج الرئيسي اسم «بروس». مشاكل عديدة ظهرت أثناء التصوير لأن هذه النماذج الضخمة كانت تتعطل وتغرق في كل لحظة تقريبًا، ولذا امتد جدول التصوير من 50 يوم إلى 155 يومًا كاملًا! لقد كان إنتاج فيلم Jaws جحيمًا حقيقيًّا من كل النواحي، وقد عانى فيه سبيلبرج الأمرين. أحد هذه النماذج كاد أن يقضم رأس المخرج جورج لوكاس عندما كان يزور الورشة التي يُصنع بها، فقد قام سبيلبرج بإغلاق الفكَّان على رقبة صديقه في دعابة قاسية.

link]

إي تي

من فيلم آخر لسبيلبرج نقابل المخلوق الفضائي الوادع إي تي، أحد أكثر نماذج الأنيماترونيكس التي أحبَّها وتعلَّق بها الجمهور لدرجة ذرف الدموع. صمَّمه فنان المؤثرات الإيطالي كارلو رامبالدي وفاز عنه بأوسكار أفضل مؤثرات بصرية. العينان الواسعتان المندهشتان لإي تي استوحاهم رامبالدي من عيني العالم ألبرت أينشتين. أدى الكائن دوره كأفضل ما يكون، حتى أن من التعليقات الطريفة التي قيلت وقتها أنه كاد يستحق أوسكار أفضل ممثل. صرَّح سبيلبرج بعد إنتاج الفيلم ان إي تي كان يمتلك ستة قلوبًا، واحدًا لكل مُحرِّك من الفنانين الستة الذين شاركوا في خلق حركته. بالطبع أي شخصية خياليَّة تظهر في أي فيلم لا يتم تقديم كل لقطاتها باستخدام نوع واحد فقط من المؤثرات البصرية، وإي تي نموذج مثالي على هذا، بعض اللقطات نفَّذتها فتاة صغيرة تلبس بذلة المخلوق وتتحرَّك بها، لقطات أخرى ليدي الكائن نفَّذتها فنانة بانتومايم تجيد التعبير بجسدها بشكل أخَّاذ، والبقيَّة الباقية كانت من نصيب نموذج الأنيماترونيك.

link]

المُدمِّر

الإنسان الألي T-800 في حالته المعدنية من سلسلة The Terminator. قام بتصميمه ستان وينستون -أفضل صانع نماذج أنيماترونيكس في تاريخ هوليوود (قريبًا موضوع مُفصَّل عنه)- بمعاونة الستوديو العملاق المملوك له. ظهر النموذج في تتابعات النهاية فقط وبشكل جزئي، لأن التكنولوجيا وقتها في عام 1984 كانت لا تزال محدودة، وفي الجزء الثاني لم يظهر النموذج كاملاً إلا في ثلاث لقطات فقط في بداية الفيلم لم تتعد الـ 15 ثانية ولم يُحرِّك فيهم قدميه قط، لكنها كانت لقطاتًا بارعة بكل المقاييس. فاز الجزء الثاني بأوسكار أفضل مؤثرات بصرية عن الخدع الفيزيائية وباقي المؤثرات الحاسوبيَّة التي كانت ثورة وقتها. قام ستان وينستون أيضًا بصنع أقنعه معدنيَّة مشوَّهة نصفها آلي ونصفها بشري لتوضع على وجه الممثل أرنولد شواريزنجر تُظهر تطور الجروح والصدمات التي يصاب بها مع تتابع الأحداث.

link]

دينوصورات الحديقة الجوراسيَّة

من فيلم Jurassic Park نقابل أشهر وأكثر نماذج الأنيماترونيكس دقَّة وروعة في التنفيذ، كائنات لم تظهر بمثل هذه الطبيعية مطلقًا وأذهلت صانعيها أنفسهم. على الرغم من التطور الرهيب الذي حدث منذ أوائل التسعينيات وحتى الآن، لم تستطع السينما تقديم نماذج أنيماترونيكس أو مؤثرات حاسوبيَّة تضاهي طبيعيَّة مخلوقات الحديقة الجوارسيَّة على الشاشة. أتحدى أكثر المشاهدين حنكة في أن يستشعر في أي لقطة بالفيلم أن ما أمامه هو خدعة بطريقة أو بأخرى. ستان وينستون من جديد والستوديو الرهيب المملوك له أدخلوا صناعة السينما إلى القرن الواحد والعشرين، ونال الفريق جائزة الأوسكار لأفضل مؤثرات بصريَّة مع فريق ILM الذين صمموا خدع الـ CGI، وقد استحقاها الفريقان عن جدارة. طوال مدة عرض الفيلم التي تتخطى الساعتين، ظهرت الدينوصورات لمدة 15 دقيقة على الشاشة، لكن تم توزيع هذه الدقائق بعناية حتى تعطيك إيحاءً بأنها ضعف هذ الرقم. 9 دقائق منها كانت لنماذج ستان وينستون الميكانيكيَّة، و6 دقائق للصور المخلقة حاسوبيًا التي نفذها الرواد في شركة ILM. (اقرأ عن مؤثرات الفيلم بالتفصيل من هنا).

link]

الغُرباء

في الجزء الثاني من سلسلة Alien الشهيرة، يُقدِّم ستان وينستون وفريقه أشرس مخلوق ظهر على شاشة السينما ربما في تاريخها كله. ملكة الوحوش الأم بالغة الضخامة وفائقة التوحش. تصميم المخلوق تكوَّن من جزئين، جزء نموذج أنيماترونيك يتحرك بالريموت كنترول، وفيه يتم التحكُّم بالرأس الكبيرة وذراعي المخلوق. أما الجزء الآخر فهو دمية يرتديها رجلًا كي يقوم بحركات القدمين والجذع. في تتابعات النهاية يدخل هذا النموذج في مواجهة عنيفة مع بطلة السلسلة سيجورني ويفر، التي تركب بذلة معدنية ضخمة ذات أسلحة حادة لتواجه بها المسخ الهائل، هذه البدلة أيضًا كانت نوعًا آخر من الأنيماترونيكس، وكانت تتحرك بالريموت كنترول هي الأخرى.

فيديو تصوير ملكة الوحوش من فيلم AVP: Alien vs. Predator

link]

حسنًا أعتقد أننا هكذا انتهينا... أود أن أترككم مع هذه الإنفوجرافيك الرائعة التي أعدَّها موقع link المتخصص في صناعة نماذج الأنيماترونيكس والروبوتات، والتي سمحت لنفسي بترجمتها وإضافتها إلى الموضوع، فهي تُلخِّص لكل شيء بشكل أنيق وجذًّاب وممتع، تمامًا كنماذج الأنيماترونيكس ذاتها.



تعليقات