"اشتباك".. أو "27 شخصًا غاضبًا"

  • نقد
  • 01:12 مساءً - 31 يوليو 2016
  • 2 صورتين



لقطة من الفيلم

دائمًا ما تضع الكلستروفوبيا (أو الخوف المرضي من اﻷماكن المغلقة) من يعاني منها في مواجهة ذاته بصحبة مخاوفه الإنسانية اﻷصيلة على نحو عنيف، خاصةً مع انقطاعه (سواء أكان انقطاع جزئي أو كامل) عن العالم الخارجي، مما يؤدي به لضرورة التعامل مع اﻷمر الواقع الحادث حاليًا في المقام اﻷول بناء على غزيرته الإنسانية المنبنية على خبرات متراكمة من مخزون المواقف التي وجد نفسه بها طيلة حياته، وهو ما يعد دومًا بحالة درامية دسمة صارت مقترنة بما يمكن اعتباره صنفًا دراميًا قائمًا بذاته، وهي (أفلام المكان الواحد) أو (Single- Location Movies).

في رأيي المتواضع، أعتقد أن هذا هو المدخل اﻷمثل واﻷعمق مما يبدو على السطح في تحليل العمل اﻹخراجي الثاني لـمحمد دياب "اشتباك"، فتناول الفيلم من منظور سياسي فقط كما سيفعل غالبية المعلقين والصحافيين هو منظور قاصر وأحادي البعد، وحتى عملية الوقوف على الموقف السياسي الذي يتبناه الفيلم هو أمر لا جدوى منه، ففي كل اﻷحوال نحن لا نتناقش هنا حول عريضة سياسية، ولا نقوم بتفنيد مواقف "مع" أو "ضد"، ولا يهم في هذا السياق من على حق ومن على باطل، ﻷننا أولًا وأخيرًا أمام فيلم سينمائي فقط، ويجب النظر إليه من هذا المنظور فقط.

ويبدو أيضًا أن محمد دياب نفسه -داخل الفيلم- يعي تمامًا ذلك الفارق الكبير بين صنع فيلم سينمائي وبين صياغة منشور سياسي بغض النظر عن طريقة الدعاية المتبعة للفيلم عبر مواقع التواصل الاجتماعي، والتي تتنافر تمامًا مع تفهمه لطبيعة الوسيط، الذي يقدم من خلاله حكايته، مما يجعل عدم انحيازه لجانب على حساب أخر، أو لرأي في مقابل رأي أخر هو أمر يعد من البديهيات في فن السينما، وفي سائر الفنون جميعها على نفس المنوال.

عودة للكلستروفوبيا، يؤسس دياب لعالم فيلمه من اللحظة اﻷولى بدفعنا إلى تأمل سيارة الترحيلات من الداخل في ضوء النهار وهي خالية في افتتاحية الفيلم لمدة ليست بالطويلة لكنها أيضًا ليست بالقصيرة بدون أي تعليق أو حتى إشارة من جانبه إلى الظروف المكانية والزمانية التي يتحرك فيها الفيلم، فيما عدا جملة "رقابية" اعتراضية تخترق هذه الافتتاحية الصامتة وتخدش هذا التعريف البصري بعض الشيء، وهو أمر أشبه بإضاءة خشبة المسرح بالكامل بعد فتح الستار على المكان الذي ستدور فيه أحداث الحكاية قبل دخول اﻷبطال، لكن الديكور هنا لن يتبدل بعد الاستراحة أو عقب الفصل الجديد، نحن محبوسين بالكامل داخل تلك السيارة مع اﻷبطال المتوافدين تباعًا بداخلها.

اشتباك

وفي نفس الوقت، يخلخل دياب ويتلاعب في اﻷساس بمفهوم المكان الواحد حتى نهاية الفيلم، فمسرح اﻷحداث متحرك وغير ثابت، مما يعمل على ازدياد حدة أعراض الكلستروفوبيا أكثر لدى أبطالنا المحتجزين بفعل الظروف الخارجية المتبدلة وغير المستقرة في ظل توسع محيط الاشتباكات خارج السيارة، وقسوة العوامل الجوية خاصة في فترة النهار، وصعوبة التبين الكامل لما يحدث خارج السيارة من منظور اﻷبطال والمتفرجين معهم إلا في حالة فتح باب السيارة بحيث لا نرى أبعد مما يروه هم بأعينهم.

ومع توافد وتزايد عدد المحتجزين داخل سيارة الترحيلات، تتصاعد حدة الكلستروفوبيا مع تناقص سعة المكان وحدة البارانويا الجماعية مع ضيق أفق الغالبية العظمى من المحتجزين وتمترسهم المتصلب المتعنت وراء خلفياتهم الدينية والسياسية، لكن هذا التمترس يخف حينًا ويتصدر الصورة حينًا أخر لكنه لا يختفي بشكل كامل، وهو ما يتوقف على حسب طبيعة الموقف العصيب الذي يواجه أحد المحتجزين أو جميعهم مما يحيلهم مباشرة للجوء إلى تضامن غريزي إنساني قد يتناسى لو بشكل مؤقت تلك الحالة من التمترس بفعل وحدة الاشتراك في اﻷزمة، وهذه نقطة هامة يحافظ على توازنها كل من محمد وخالد دياب في نصهما السينمائي.

وهو ما يردنا مباشرة لما كنا نتحدث عنه في بداية المقال عن قصور النظر للفيلم بعين واحدة على مستواه المباشر، وهو اﻷحداث الجارية في مصر عقب 30 يونيو، فالفيلم لا يرجع كل دوافع أبطاله حصرًا على التوجه السياسي، كما لا ينتهي إليها هي فقط، وإنما يتداخل معها عوامل متعددة آخرى مثل المستوى الاجتماعي والطبقي، ونوعية الوظائف التي يشغلها كل منهم، ومستوى اﻹدراك والمعرفة، ومدى تفاعلهم مع الشأن العام، فعندما تنظر للأزمة الرئيسية التي يعانيها اﻷبطال من كونهم محتجزين معًا داخل سيارة ترحيلات خلال يوم عصيب بتجرد تام ودون آراء مسبقة، ستجد أنها أزمة مماثلة تمامًا لما عاناه اﻷبطال المحتجزين داخل مصعد كهربائي في فيلم (بين السماء واﻷرض ) حتى مع اختلاف الظرف العام للأحداث في كل منهما.

إن عدم انطلاق الفيلم وأبطاله من آراء سياسية مسبقة هو ما نجح في تخطي الفيلم لفخ التعالي وفرض وجهة نظر بعينها، وهو فخ يسهل الوقوع فيه بشدة لمن تحتك أفلامهم بالشأن السياسي أو الشأن الاجتماعي، وينجرف به عن سرد القصة لحساب إيصال وجهة النظر المطلوبة، ومن اﻷمثلة على ذلك فيلم بعد الموقعة الذي كان ينظر لسكان نزلة السمان وسائر المناطق الشعبية نظرة فوقية ومتعالية للغاية بكونهم مجرد أشخاص أخرين أقل وعيًا وأقل حظًا في التعليم والثقافة والمستوى الاجتماعي من بطلة الفيلم.

وبذلك يصير جميع أبطال الفيلم متسمين بالمساواة التي لن نقول بالطبع إنها مساواة مطلقة، وإنما هي مساواة مقيدة بالوقت الذي يقضونه داخل سيارة الترحيلات والظرف الحرج الخاص بهم، مما يؤدي إلى انخفاض درجة الخصوصية بين الجميع ﻷقصى درجاتها، ناهيك عن المشاعية الاختيارية أو الجبرية لما يعرفه أو يملكه أي منهم، مما يجعل الكاميرا لا تفارقهم مهما حدث بكم هائل من اللقطات القريبة والمتوسطة بطبيعة الحال.

ومع التبدل الدائم للظروف خارج السيارة، فإنها تؤثر بطبيعتها على الحالة البصرية العامة داخل السيارة، خاصة من خلال استغلال اﻹضاءة الطبيعية للشمس وتكثيف تأثيرها بصريًا خاصة حين تطغى على الصورة، ونفس الشيء مع ضوء الليزر اﻷخضر واﻹضاءة الطبيعية للشارع ليلًا خاصة في تناوبها بين اﻷحمر واﻷصفر، وأيضًا مع لحظات الظلام التام التي تمنح هي اﻵخرى إيحاءاتها البصرية الخاصة.

وعلى الرغم من حالة النضوج لعناصر الفيلم، إلا أن الفيلم كذلك لم يخلِ من بعض اللحظات التي اتسمت بانفعالية زائدة على الصعيد الدرامي أعطت حالة غريبة في بعض المشاهد، مثل لحظة تصريح رضوان لصلاح بحقيقة عضوية ابنه بجماعة اﻹخوان، أو طريقة نجوى في استفزاز الشرطة لتكون مع ابنها وزوجها المحتجزان داخل السيارة.

وفيما عدا هذه اللحظات الانفعالية، يبقى لنا في النهاية انفعالنا العام نحن كمشاهدين مع "اشتباك" بفعل حالة التوحد التي حرص عليها دياب مع أزمة أبطاله اﻹنسانية قبل النظر لها كأزمة سياسية، وتغاضي النظر عن المواقف المسبقة، وعن حسابات المكسب والخسارة، كمثل لعبة X وO التي تبادلها فارس وعائشة على جدار السيارة دون الانتهاء بفائز حاسم فيها، أو بدون القدرة على مواصلتها.


وصلات



تعليقات