اشتباك.. أن تصبح السياسة في الخلفية

  • نقد
  • 11:21 مساءً - 1 اغسطس 2016
  • 1 صورة



أفيش الفيلم

جعل القائمون على فيلم "اشتباك" الحكم على الفيلم بموضوعية أمرًا صعبًا للغاية، فقبل نزول الفيلم ببضع أيام تحول صناع الفيلم لخليّة نحل، مروجين لفكرة أن دخول الفيلم هو واجب ثوري، وساندهم أصدقائهم ومحبيهم بالتأكيد على نفس الفكرة، وعلى الرغم من أن الفيلم لا يحمل في طياته أي شعائر ثورية، والفيلم ذاته خالِ من تلك الهالة التي حاول القائمون عليه تزييفها، أي أن الفيلم غير مستفز للدولة بالمقدار الذي حاول القائمون على الفيلم الترويج له، بل أن الدولة أصلًا ليست طرفًا في الصراع القائم داخل الفيلم، حتى أن عربة الترحيلات التي تدور فيها الأحداث ستحمل في داخلها فردًا من عساكر الأمن، لتصبح بذلك الداخلية ضحية من الضحايا الذين تم حبسهم في الداخل بالخطأ، لذلك لم أفهم غضب بعضهم من أن الفيلم "ثوري" لأنه ليس ثوري بالمرة، أو غضب البعض الأخر لأنه فيلم مؤيد للدولة لأنه أيضًا غير مؤيد للدولة، هو ليس ذلك أو ذاك، وإذا نظرنا للفيلم بهذا المنظور الأحادي سيميل الفيلم للسذاجة بالطبع، وهو آخر شيء يمكن وصف فيلم "اشتباك" به، لأن الفيلم به عناصر فنية صنعت منه فيلمٍ جيدٍ، ولنفي صفة السذاجة عن الفيلم يجب علينا النظر للفيلم من داخله، أي النظر للشخصيات كما أرادها المخرج لا أن نستخدم إسقاطاتنا الشخصية.

1- بالنظر إلى طريقة التصوير التي اختارها محمد دياب سنجد إجابة لسؤال "لماذا اختار محمد دياب فكرة المكان الواحد (عربة الترحيلات)؟" والسبب المبرر الوحيد لهذا الاختيار هو لخلق فكرة المعايشة، والمعايشة هنا لا تأتي من مجرد مشاركتك معاناة الأبطال، بل أن تصبح بالفعل واحدًا منهم وتعاني معهم في نفس المكان، كل زوايا الكاميرا الضيقة وحركتها المهزوزة وميلها على الجنب في نهاية الفيلم حينما انقلبت العربة، كل ذلك يعطيك إيحاء بأنك جزء من المأساة، لا أنك تنظر لها من بعيد، لست مجرد مشاهد عن كثب، أنت تعيش معهم كل شيء بالتفصيل.

وبناءً على ذلك، إذا نظرنا في المقابل إلى الشخصيات، فمن الأشياء المأخوذة ضد الفيلم هو سطحية الشخصيات وتناولهم بشكل أحادي الزاوية، أي أن كاتب السيناريو آثر الاستسهال في الشخصيات بدلًا من التعمق في دوافعهم، فظهر الإخواني على سبيل المثال تمامًا كما يُقال على الإخوان -بشكل كليشيه- دون الدخول في أعماقه النفسية، ويُطبق ذلك على بقية الشخصيات، حتى اللقطات الإنسانية تشارك فيها الجميع للتأكيد على فكرة أن كلنا "إنسان"، دون وضع احتمال أن البعض بالطبع لن يكون بهذا التسامح في وضع بهذه الخطورة، ويمكن التبرير لذلك بفكرة المعايشة التي ذكرتها قبلًا، إذ أنك متورط معهم في الداخل لذلك لا ترى منهم سوى التفاصيل الصغيرة، أو أنك بالفعل تراهم وفقًا لأحكامك المسبقة، لو تم التركيز على كل شخصية على حدى والتعمق فيهم ستفقد حتمًا عنصر المعايشة الذي بنى عليه محمد دياب الفيلم بأكمله بدايةً من حركة الكاميرا نهايةً بالموقع الواحد داخل عربة الترحيلات، بالطبع كنا لنتعمق أكثر في الشخصيات لو خرجنا بالشخصيات خارج العربة للعالم الحقيقي، ولكن محمد دياب هنا انحاز للمعايشة على حساب العمق.

2- يمكننا بسهولة القول إن فيلم "اشتباك" فيلم ساذج لأنه يتعامل مع كل شخصيات الفيلم على أنهم واحد، لذلك تم حبسهم داخل عربة ترحيلات واحدة، كأن عربة الترحيلات هذه ترمز إلى مصر، ويمكن بسهولة مهاجمة الفيلم من هذا المنظور بعيدًا عن أي انحيازات سياسية، ولكن لأنه ببساطة غير حقيقي، لسنا واحد، والحقيقة المرة أنه منذ أحداث 30 يونيو يقتل المصريون بعضهم البعض وتنهدم العلاقات بسبب ذلك، وشخصيًا لا أعتقد أن المخرج كان بهذه السذاجة ليدعي الوحدة، لذلك ولنفي فكرة أن الفيلم قرر إرضاء جميع الأطراف في النهاية، فالمبرر الوحيد هو أن المخرج لم يرغب في عرض حدث سياسي، بل أراد عرض حالات إنسانية والحدث السياسي هنا يمر في الخلفية، أي أنهم في داخل العربة يتجردون من كل أحكامهم على بعضهم البعض ويقعون جميعًا تحت القهر الذي سببه العنف في الأساس، داخل العربة تنهار الأيديولوجيات ويظهر الإنسان، لا يتعاملون سويًا على أساس مَن منهم إخوان ومَن منهم بلطجي ومَن مؤيد للدولة، بل يتعاملون سويًا على أساس ما وراء ذلك، يتعاملون من الأرضية التي نتشابه فيها جميعًا، لذلك كما قلت في البداية لم أفهم لماذا يتم تسييس الفيلم وهو لا يتحدث سوى عن العنف وضحاياه؟ لم يرد المخرج إخبارنا أننا واحد بقدر ما حاول إخبارنا أن العنف لا يفيد وأن العنف نهايته مأساوية على الطرف البادئ به حتى قبل الأخرين، الدليل على ذلك هو أنه في المشهد الأخير تم الهجوم على العربة من مظاهرة مؤيدة للدولة وبداخل العربة أشخاص بالفعل مؤيدون للدولة، كنايةً على أن تمسكك بالطرف الأقوى لن يحميك إذا كنت حاضن للعنف.

3- من الأشياء الجميلة في الفيلم هي تلك اللحظات الإنسانية التي يعيشها الأبطال، مثل لعبة "X O" التي يتشاركها "فارس" و"عائشة" على الحائط، ووقوفهم جميعًا مطالبةً بحق عائشة في التبول، الشجار بين "منص" وصديقه ثم صراخ صديقه بصوت مدوٍ "يا مااااااانص" في النهاية حينما ينتشله الجماهير من العربة ليقتلوه، جلوس "منص" في وسط العربة لينتشل تليفونه مستمعًا لمهرجان "هاتي بوسة يا بت" كما لو أنه يحاول الهرب من الواقع عن طريق الاستماع لشيء يألفه، كل هذا بالإضافة للحظات الضحك الموجودة بوفرة، كلها لحظات أكدت على فكرة أن الفيلم يناقش قضية إنسانية قبل أن تكون سياسية، والسياسة هنا تمر في الخلفية لا في المقدمة.

4- المونولوجات الفردية ظهرت لحسن الحظ في لحظات قليلة في الفيلم، مثل حديث "عائشة" عن أنها صاحبة فكرة النزول وأنها نادمة لأنها ربما تكون السبب في مقتل والدها، وحديث "آدم" عن موت والده وحديثه عن مصر، وقد قُلتُ لحسن الحظ لأن المونولوجات الفردية تلك تضرب عمق المعايشة في مقتل، لا يتحدث الناس هكذا في الواقع، لا يقول الشخص عادةً حين القبض عليه "البطل بيموت عشان قضية مش عشان صورة" فيرد عليه صديقه "الصورة ممكن تبقى قضية" لا يتحدث البشر في العادي بتلك الطريقة، ولا تركز الحياة في لحظات الخطورة تلك على وجه فتاة تمارس رثاء الذات كما حدث مع "عائشة"، ولحظات كهذه لو كانت تكررت لحولت الفيلم كله إلى شيء باهت، تتحول فيه العربة إلى مسرح مآسي ويتحول العمل لفيلم ميلودرامي رخيص.

في النهاية كل أسباب الهجوم على الفيلم كان لها مبرر، وسلبيات الفيلم جاءت هامشية بشكل جعل الفيلم جيد جدًا فنيًا، ونجح في تفادي معظم الأخطاء التي كان متوقع أن يقع فيها مخرج قرر الحديث عن أمر شائك مثل أحداث ما بعد 30 يونيو، لأنه تحديدًا تجاهل هذا الصراع وركز على الإنسان نفسه لا قناعاته، وبالرغم من أسلوب الدعايا الذي اتبعه القائمون على الفيلم الذي عمل على حث فئة معينة لمشاهدة الفيلم، وهو الإخفاق الأعظم الذي قد يقع فيه أي مخرج، إلا أن الفيلم نفسه يستحق الاحتفاء، فهنيئًا محمد دياب.

وصلات



تعليقات