"Closer".. هل تجرُؤ على الاقتراب!

  • نقد
  • 10:00 مساءً - 25 اكتوبر 2016
  • 1 صورة



فيلم "Closer"

"- أنا لا أحبك بعد الآن

= منذ متى؟

  • الآن.. على الفور.

لا أريد أن أكذب، ولا يمكنني قول الحقيقة.. لذا، لقد انتهى الأمر.

= أنا أحبـِـك، لا شيء من هذا يهم.

  • تأخرت كثيرًا، أنا لا أحبك بعد الآن، الوداع.. ها هي الحقيقة؛ لذا يمكنك أن تكرهني الآن."

عن قـُرب، ستختلف الأمور، حتمًا سيسوؤك ما كنت تجهله. الآن دعني أصحبك في جولة، تقدّم معي بعض خطوات.

نعم هكذا، توقّف الآن وألقِ نظرة من بعيد على تلك الفتاة. نعم، هذه، تلك الجميلة البارعة مُشرقة البشرة صاحبة الشعر الأحمر الأخّاذ، صاحبة الطلّة الخاطفة التي لن يصمد أمام سحرها سَدًّا! أترى كيف تكون انطلاقتها؟ أترى كيف هو استمتاعها بكل حرف تلفظه أو التفاتة تلتفتها؟ آحببتها؟.. لا مقاومة تُجدي معها!

ستخبرك أن اسمها "آليس"، ومن بعيد لا فرار من شـِباك سحرها، سنتفق جميعًا أنه لا اختلاف على ذلك، ودون أدنى تروّي منا بالحكم!

الآن دعهم يقتربون. عن قرب ستجد تلك البراءة التي لفّتها من رأسها لأخمص قدميها، وتلك العفويّة التي عانقت كل التفافاتها، أجادت التناقض الأكمل مع وظيفتها، هي ستخبرك دون مواراة أنها "مُتعريّة"، هي تعلم أنك الآن تتصور مفاتنها في مُخيّلتَك، وكيف لجسدها الغض هذا حين يكون عارياً؟!.. هي ستخبرك بأشياء في تبسّط تام ربما يذهلك، لكن مع ذلك تدرك أن هناك مكر يحيط تلك الفتاة وغموض علّمتها الحياة التحلّي به، ستدرك أنها اغتنمت أسلحتها بنفسها لتتعامل مع كل محيط أياً كان، لكنك ستقترب أكثر، وستدرك أكثر، وتمنحك هي الأكثر فالأكثر. ثم تفاجئك بأن هناك معلومات تمنحها لك مغلفة بالمراوغة المفضوحة، مراوغة أرادت لك أن تعلم بوجودها، ستدرك أيضاً أن تلك الفتاة تعلم جيداً مقابض الرجال، و كيف تُديرها في الاتجاه الذي ترضاه. ستعلم أن بارعة الجمال تلك التي أبهرتك عفويتها، بها من الغموض والتحكم في مشاعرها وعلمها بنقاط ضعفك ما يخيفك، ستعلم أنك كلما اقتربت كلما تمكنَّت هي منك ومن نقاط الضعف تلك، لكنك ترغب بالاقتراب لتحل عنك غموضها، فهل تقترب؟

الآن، دعك منها وألقِ نظرة -من بعيد- على تلك السيدة، نعم هذه.. صاحبة الملامح الهادئة ـ التي لم تخلُ من أنوثة ـ الناضحة بالحكمة والنضوج، اسمها "آنا"؛ لن تحتاج لجهد في معرفة أنها امرأة تتقن عملها جيداً وتطمح بنجاحه، هي "مصوّّرة محترفة" أصابعها أدركت أسرار الكاميرا بشكل مذهل، آنا -من بعيد- لن تترك لك مجالاً سوى بالتفكير في هدوئها، حكمتها، تروّيها، نضوجها، وسعيها لكمال عملها، أمور كلها تُفضي لمسعى تحقيق السعادة.

دعهم يقتربون. "آنا" من هؤلاء الذين أجادوا دور "ضحية التعاسة"، هي ترغب بأن تضِلهَّا السعادة؛ هي مكتئبة وستظل، أمست تألف ذاك الشعور، تهيّأت مناخاتها من أجله، حتى إن صادفتها فرصة لتسعد، ستزدريها باقتدار!، لكن، نضوجها خادع وسيحكم قبضته. لا زلت ترغب بالاقتراب، أستفعل؟!

اغتنم الآن نظرتك من هذا الشاب الوسيم، اسمه "دان"، سيحيّرك أمرهُ كثيراً! هو شاب بسيط يخبرك عن حبُه للكتابة وكونه روائي فاشل دون خجل، فاختار أن يكون صحفي حتى وإن كتب لصفحة الوفيات. وسيم هو وبسيط، يبدو لك أن الحنان يفيض منه دون حساب، دعهم يقتربون دون أن يفقدوا حذرهم؛ دان مستغل وإنتهازي، بل الأدهى، غير سوّي بالمرة على عدة مستويات؛ ستكتشف أنه ينتظر إقترابك ليمتص عُصارة حياتك محولّاً إياها لكتابات قد تنجح في إقامة قلمه على قدميه، سيفجعك اكتشاف محاولته أن ينسج خيوط حياتك كما يتراءى له، لتكتمل روايته كما يحب لها أن تكتمل! سيورطك مع شخصيات، يقحمك بأحداث، يسعى لملاطفتك مع تلك وإزاحتك من طريق تلك، سيرغب في تحريك عالمك كما لو أنه روايته! لن يروقك الأمر، لكنك تحب هذا التشويق الناجم عن علاقته، هذا الشعور يرغمك على رفض الإبتعاد، فهل تقترب؟

ثم أخيراً، نظرة - من بعيد- على هذا الرجل البالغ، نعم، ذلك الرصين الهاديء الذي تفتّق عن مظهره الذكاء الحاد، "لاري"، طبيب الأمراض الجلدية، له طلّة مُعذَبّة عجيبة، تشعر معها بأنه فى معاناة قاتمة ولابد لك أن تساعده. الآن دعهم يقتربون، "لاري" عجيب الشأن فعلاً، لا صلة لجنونه بمركزه الإجتماعي، يشعر بالنقص الذي يرغب بتعويضه دوماً في تفاصيل لا تحتل من إهتمام الآخرين مثلما إحتلت من إهتمامه!، "لاري" يكاد يكون مهووسًا جنسيًا رغم مركزه هذا، "لاري" تفصيلة صغيرة وإن كانت كاذبة قد تحيل حياته جحيمًا، قد تـُلوث كل ذكرياته الجميلة وتُعكِّرها. "لاري" ربما يتمناكِ عارية تضاجعينه حتى وإن كنتِ تحدثينه عن أحوال البورصة!، "لاري" بمعاناة أخرى غير تلك التي تبدو لكِ، لكن معاناته التي بدت لكِ تروقِك وتمدّكِ بالقوة، تجعلكِ راغبة بالاقتراب لاحتوائه، مصدر سيمنحك الشعور بنقائك وقدرتك على معاوّنة الآخرين، هو مختل وغير سويّ حين تقتربين، لكنه في معاناة تستجلبك -بشكل أو بآخر- لمعاونته!.. فهل تقتربين؟

في فيلمنا Closer، هؤلاء هم أبطالنا الأربعة، تتشابك علاقاتهم بشكل مثير جدًا، سيستحوذ انتباهك الكُلي منذ أولى اللحظات، كلما اقتربنا أكثر منهم، كلما تبدّى لنا ما فاجئنا، سيرورة العلاقات نفسها وما سينجم عنها من مفارقات جديرةٌ بأن تلف رأسك إعجابًا وتعجُّبًا!، اترك نفسك لحظات لتتخيل كيف الحال، حين تتقابل تلك الشخصيات بعلاقات متشابكة، ويقتربون ليكتشفوا ما سيسوءهم، والأدهى أنهم قد يصرون على الاقتراب!

المخرج مايك نيكولس ، وهو واحد من مفضليني شخصيًا، يجيد تمامًا حبك علاقات فيلمه، ورصد التفاصيل المؤثرة لأبعد عمق، يدرك من أين له أن يحوذ انتباه المتلقي وحواسه تمامًا، فتجلس لتبهرك غرابة العلاقات مع مدى واقعيتها وشعورك بشخوصها وما يداهمهم من أحداث وتقلّبات. أبهرني فى أولى تجاربي معه بـ “Who’s Afraid of Virginia Wolf “، ولم تختلف درجة انبهاري في صياغة علاقات فيلمه “The Graduate” رغم تفرّدها و شذوذها، ثم يأتي بفيلمه هذا لتذهلني براعته من جديد، واحد من أقدر المخرجين على التعامل مع النصوص المسرحية التى تـُرجمّت نصًا سينمائيًا.

جعل لفيلمه إيقاعًا خاطفًا للأنفاس، دون أن تفلت منه الموائمة تمامًا مع قوام النص: "ستقترب، سيسوءك ما كنت تجهله، ستجابه المشكلات".

أما كاتب النص باتريك ماربر، فهو مبدع من الألف للياء، ستذهلك قدرته على حَبك هذه العلاقات ورسم تلك الشخصيات بما يتعرضون له من مفارقات ومواقف متباينة امتد تأثيرها عليهم جميعًا، كل منها ـ من المواقف ـ يؤثر على الأبطال الأربعة بالتوازي تباعًا، بشكل لا يترك لك مجالاً لإلتقاط أنفاسك. الحوار به تفاصيل قاتلة، كل شخصية حملت فى تكوينها وألفاظها تفاصيل دقيقة مفعمة بما انطلى عليها من تجارب ومواقف، أعجبني جدًا "ماربر" بتمكنه في صياغة نصه وحبكته مع رسم شخصياته، ليؤكد لي ذات براعته في كتابة نصه الآخر بالفيلم الرائع "Notes on a Scandal".

ناتالي بورتمان، هذه الفتاة هنا، ستقتلك بسحرها وطلّتها؛ تؤدي بشكل يجاوز الامتياز، مع كاريزما لا يمكن أن تخفق في استحواذك، بديعة، جميلة، ساحرة.

كذلك كليف أوين، يؤدي دورًا فى قمة البراعة، تمكّن تمامًاً من هذه الشخصية التي تعاني على عدة مستويات، شخصية معقدة وأدّاها بشكل رائع.

جوليا روبرتس و جود لو أيضاً كانوا في قمة براعتهم. الجميل أن أبطالنا تمكّنوا تمامًا من أجواء الفيلم طيلة مدة عرضه، أتقنوا صياغة ردود الأفعال، أتقنوا الانغماس في الحالات المتعددة المتباينة التي يطليها عليهم كل موقف بالنص، فتتابعهم وتهتم لأمرهم بحق، ثم ترغب بالاقتراب لتعلم أكثر!

لا أرى جدوى من عرض علاقات الفيلم وتشابكاتها بما تمخّض عنها، المتعة كلها تكمن في اقترابك من كل شخصية واكتشاف ما غاب عنك من بعيد.. وهل هذا سيتفق مع تصورك الذي كونته بعد عرض الشخصيات عليك أم سيختلف عنه؟ فيلمنا عن أي علاقة قد تُعقد بين شخصين، عن المساوئ التى تبدو لك بعد الاقتراب من الطرف الآخر، عن المشاكل التي لابد وأن تعانق كل روح إنسانية، لكن جمال بدايات العلاقة لم يسمح لنا سوى بالتفكير في هذا الملاك التي سنحت لنا الأقدار بلقائه. فيلمنا عن الاقتراب الذي يُفقد العلاقة جمالياتها بما بدا من مساويء، أو يزيد جمالياتها لما غلّفَها به من واقعية، الأمر شأن صاحب العلاقة وتحليلاته وتفاسيره، لهذا لا تنتهي العلاقات ذات النهاية أبدًا.

أعجبنى الفيلم واستمتعت به للغاية، فيملنا "عن قـُرب" مختلف عن كونه بعيدًا. عن قـُرب، ستختلف الأمور، و قد يسوؤك اختلافها، فهل تجرؤ على الاقتراب ونبش ما قد يخدش أظافرك؟!

وصلات



تعليقات