"The Unknown Girl".. الشعور بالذنب يطال الأخوين داردين

  • نقد
  • 12:23 صباحًا - 7 نوفمبر 2016
  • 1 صورة



"الفتاة المجهولة"

"لو كنت فتحت الباب لها، لكانت على قيد الحياة الآن".

ربما ذنب صغير تقترفه دون قصد، لسوء حظك، تأتي عواقبه كارثية فتؤرقك طيلة عُمرك، بل الأدهى، أن تمارس فعلًا اعتياديًا نقوم به جميعًا، حتى أنك لا تحتسبه ذنبًا من الأصل، ثم تأتيك نواتجه وخيمة لتدفعك إلى تصنيفه ذنبًا لا يُغتفّر وتُثقل به كاهليك ما حييت.

تخيّل معي مثلًا أن صديقك يتصل بك على الهاتف، ترى اسمه يتوسط شاشة هاتفك المحمول، فتقرر - خلال جزء من الثانية - أن بالك غير رائق لمثل هذه المكالمة بالوقت الحالي، أو أنك منشغل بأمور أكثر أهمية، أو أنه ثرثار ولست على استعداد لسماع رواياته بهذه اللحظة؛ فأنت لن تُجيبه حاليًا وستعيد الاتصال به فيما بعد، وهكذا تُنحِّي هاتفك جانبًا لتمارس حياتك كما كنت. هو فعل اعتيادي قد نقوم به جميعًا في أوقات عِدة، ولا نُحملّه قدرًا كبيرًا من تأنيب الضمير، هو اتصال تلقيناه في وقت ليس بالأمثل، ثم قررنا ألا نجيبه على أن نقوم به فيما بعد حينما تحين الفرصة، هو أمر طبيعي ولم نقترف ذنبًا ها هنا.. الآن تخيّل معي في اليوم التالي، أنك اكتشفت بطريقًة ما، أن صديقك هذا قد وافته المنيّة، وأنه تعرض لنوبة مرضّية هاجمته ليلة أمس لم تمهله الحياة بعدها، وربما الاتصال الذي قد ورَدَك منه أمس، كان ليستنجد بك من نوبة مرضه تلك، وأنه قصدك أنت تحديدًا لتلحق به وتنقذه، وأنك حين رفضت إجابته بهذه اللحظة بالذات، أطبق المرض فكيّه على صديقك وظفر الموت بروحه، هنا ستفكّر في: "نعم هو قدره الذي لا مناص منه، ولكن ربما لو أجبته لكانت تغيّرت الأمور". وسيتحول عدم ردك على الهاتف أمس –وهو فعل طبيعي يقوم به الجميع- إلى ذنب جسيم لن تغفره لنفسك، وربما يؤرقك في كل يومٍ جديد تحياه.

هذا هو ما حدث بالضبط مع طبيبتنا الشابة "جيني"، باختلاف معايير المواقف طبعًا، جيني طبيبة شابة تولّت عيادة أستاذها لفترة مُحددة، تتابع خلالها المرضى المترددين على عيادته، ويساعدها في ذلك طبيب متدرب تحت يديها يُدعى "جوليان". ذات ليلة، تصل مريضة تقرع جرس العيادة ليتم استقبالها، يهم جوليان ليفتح الباب لها فتستوقفه جيني وتخبره أن موعد عملهما انتهى منذ ساعة ولن يستقبلا مريضًا جديدًا. في اليوم التالي، يَفِد محققان إلى العيادة ويخبراها بأنهما وجدا جثة فتاة مجهولة وربما مقتولة، ونتبيّن أنها الفتاة التي زارت العيادة بالليلة الماضية، ورفضت جيني الاستجابة لها؛ هنا يتحول فعل جيني الاعتيادي برفض حالات متأخرة إلى ذنب مروّع، ويستحوذ عليها التفكير بأنه لو كانت فتحت الباب للفتاة، لربما كانت على قيد الحياة الآن. ويصبح شغل طبيبتنا الشاغل هو أن تصل لهويّة هذه الفتاة المجهولة لتمنحها التكريم المناسب بأن تدفنها باسمها، بدلًا من أن تُدفّن مجهولة الهويّة ولا يُستدَل عليها من أحد، أو يتعذّر على أهلها بلوغ قبرها؛ فتنطلق جيني - مُثقلة بذنبها - في تحقيقها الخاص ورحلة بحثها.

"The Unknown Girl"، أو "La fille inconnue" بالفرنسيّة؛ تبدو الفكرة واعدة، وتمنح صانعيْها موضوعًا يُمكِّنهما من مداعبة مشاعر المُشاهدين واعتصار أرواحهم إن أرادا، فضلًا عن المساحات التي يخلقها الموضوع لفرد حوارات ومواقف بالغة التأثير على المتلقي. ولكن "الأخوة داردين"؛ جان بيير داردين ولوك داردين - كاتبا ومخرجا الفيلم - لم يُحققّا هذا أو ذاك، ولم يُصقلا فكرتهما الجيدة بالمعالجة التي تليق بها، بل أخذا يترنحا بين مواقف لا تمت لجوهر الفيلم بصلة، وأهدرا ما يزيد عن ثلثي الفيلم في مشاهد عبثية لا مغنم منها للمُشاهد سوى الضجر التام وفقدانه اكتراثه للأمر بُرمته! وهذا غريب، لأنهما الكاتبان والمخرجان ذاتهما اللذان قدمّا لنا رائعتهما العام الماضي "Two Days, One Night" ففي الأخير، رسما الموقف بعناية، وعالجاه باحتراف، ولم يُضيّعا لحظة دون جدوى، فتعيش كمُشاهد كل مشاعر البطلة، وتختبر بذاتك موقف كل زميل لها، وتشعر بحيرة هذه وذاك، وتتألم لموقف بطلتك، وتنغمس في الحالة تمامًا، شاعرًا بكل شخوص الفيلم وكل موقف يمر أمامك على الشاشة بحذافيره وأدق تفاصيله.

لكن في فيلمنا هذا، يُوجِد الأخوان مسألة الذنب الناشيء عن فعل اعتيادي بسيط، ثم ينطلقان في رحلة بحث البطلة عن هويّة الفتاة، دون اهتمام منهما بشخوص الفيلم أو منحهما بعض العناية في رسم العلاقات، فمثلًا علاقة جيني بـمتدربها جوليان، كانت سطحية تمامًا، لا تأبه لخلفياتها ولا تندمج مع مآلها، مجرد علاقة انتقلت من هنا لهناك وأنت لا تكترث لأي شيء، لأن صانعي الفيلم لم يمنحوك ما تكترث لأمره من الأساس.. ثم الحالات المَرَضيّة التي غزت ربوع الفيلم من أوله لآخره دون أي مبرر لها، فإذا بك تشاهد الطبيبة جيني وهي تتعامل مع ما يصل لعشر حالات مرضية بتفاصيل مملة في مشاهد متفرقة ومتتابعة، دون أي فائدة تُرجى من هذه المشاهد، فلو أنك موظف حجز بإحدى العيادات، لمّا مررت خلال يومك بالحالات المرضيّة التي ستمر بها في الفيلم!

هذا غير جملة المشاهد التي تتحر ى خلالها جيني عن هوية الفتاة دون الوصول لشيء، ربما مقصد الأخوين هو توريطنا مع الطبيبة في البحث، وهذا مقبول لو أنهما يرتكزان في قصتهما على غموض حادثة الفتاة المجهولة، وأن كشف تفاصيل موتها هو الأمر الأول بالفيلم، وهذا ليس حال فيلمنا. ولو مقصدهما أن نشعر بدأب الفتاة في البحث رغم الإحباطات التي تتوالى عليها، وأن يتسلل لنا جحيمها المقيم في شعورها بالذنب، فهما قد أخطآ التقدير، لأنهما كان بمقدورهما أن يبلغا هذا بمعالجة أفضل وبتفاصيل أدق، بدلًا من جملة المشاهد التي لم تتعدى حوارات امتثلت في أقوال معدودة على شاكلة "لا أعرفها"، "لم أراها من قبل"، "لا أعلم عنها شيئًا". فضلًا عن حالات مرضيّة عدة لا دخل لها بموضوع الفيلم أو مجرياته، فكل هذا أفقد المشاهد اكتراثه تمامًا بالموضوع، وبدلًا من أن ينغمس في حالة البطلة، أو مأساة الفتاة المجهولة، تاه بين شخوص لا تهمه ومرضى أرهقه إحصاء عددهم.

ثم يأتي الجميع في نهاية الفيلم، ويبدأ كل فرد في إزالة ثقل ذنبه عن كاهليه، ويعترف الجميع بذنب أبى الاعتراف به فيما قبل، ولكن ضاق صدره بكتمان ذنبه، فيعترف مُطارد الفتاة بما حدث بالتفصيل، وتعترف شقيقة الفتاة المجهولة بأنها شقيقتها، وتنهال الاعترافات المشوبة بالذنب المُرهِق؛ وكأن الأخوة داردين أزاحا في معالجتهما للنص كل شيء جانبًا، فقط لتصل فكرتهما بأن موضوعهما هنا عن الذنب الذي يُرهق صاحبه!

كان بمقدور الأخوة داردين أن يُقدما فيلمًا رائعًا جديدًا بمثل هذه الفكرة، ولكن معالجتهما كانت غريبة التناول ولم تسمح للمتلقي بأي تعايش أو انفعال، بل يقل اكتراثه شيئًا فشيئًا إلى أن يفقد اهتمامه تمامًا. حتى الأداءات التمثيلية لم يكن بها ما هو مٌلفِت أو مثير للانتباه، والبطلة أديل هاينل - في دور الطبيبة جيني - ضاع أدائها في الحالات المرضية وتفاصيلها الغير مُجدية. وكما كان الجميع ينصحون جيني بالفيلم قائلين: "لا تشعري بالذنب، فمن الطبيعي ألا تُجيبي الحالات في مثل هذا الوقت المتأخر"، سأقولها أنا الآخر لأديل هاينل: "لا تشعري بالذنب، فعلى الأخوة داردين وحدهما أن يشعرا بالذنب لتقديم فيلمهما بهذا المستوى".



تعليقات