Hacksaw Ridge.. المُداواة بالتي كانت هي الداء

  • نقد
  • 10:45 مساءً - 7 ديسمبر 2016
  • 2 صورتين



Hacksaw Ridge

هناك اتهام دائم يتم توجيهه من قبل عدد ليس بالقليل للمخرج ميل جيبسون بأنه يعشق ويتلذّذ باستعراض مظاهر العنف في كافة اﻷفلام التي تولّى إخراجها، خاصة منذ فيلمه "Braveheart" ومرورًا بفيلمي "The Passion Of The Christ" و"Apocalypto"، خاصة مع فرده مساحات درامية وبصرية لها، حتى أن فيلم "The Passion Of The Christ" مثلًا لا يقدم من قصة المسيح سوى الساعات اﻷخيرة التي شهدت عذابات جسدية شنيعة قبل صلبه على "الجلجثة" خارج حدود مدينة القدس القديمة.

لكني -شخصيًا- أرى أن العكس هو الصحيح، "جيبسون" في رأيي ينبذ العنف ولا يستعرضه بلذة كما يعتقد الكثيرين، وما يفعله هو تعريض المشاهد نفسه لجرعة مكثفة جدًا من العنف حتى يدفعه نفسيًا لرفض ذلك في قرارة نفسه، أي أنه يعالج العنف الكامن داخل الانسان الذي قد ينتظر فرصته السانحة للخروج بالتعرض لتجربة تنطوي على قدر هائل منها، كأنه يداوي بالتي كانت هي الداء، وربما يكون فيلمه اﻷحدث بعد سنوات طويلة من الغياب عن مقعد المخرج "Hacksaw Ridge" دليل مهم على تلك النقطة.

يبدأ الفيلم بمشهد افتتاحي من قلب الحرب وبالذات من معركة "هاكسو ريدج" التي تقع في النصف الثاني من الفيلم، وذلك قبل التوجه المعتاد للتعريف بالشخصيات الرئيسية وعلى رأسها (ديزموند تي دوس) (أندرو جارفيلد)، حيث يجول بنا لبضع دقائق بين الجثث المحترقة واﻷشلاء المتناثرة ورائحة البارود المتصاعد، "جيبسون" يعطي مشاهده مبكرًا ومنذ البداية لمحة عن الجحيم الذي ينتظر بطله في اﻷفق قبل العودة بنا سريعًا للمربع رقم واحد.

يبدأ "جيبسون" رحلته مع بطله منذ الطفولة المبكرة للغاية لندرك معه بذرة فكرة الاستنكاف عن حمل السلاح التي آمن بها "دوس" على نحو ناضج مع الكبر والوعي، وذلك من خلال واقعة ربما كانت تبدو ﻷي أحد آخر مجرد لعب أطفال، لكنها كانت بالنسبة لـ"دوس" تجربة مصيرية، وذلك حين يقوم بضرب شقيقه بحجر على رأسه فأغشي عليه وربما كاد أن يفارق الحياة، فيفكر مباشرة فيما حدث من تربيته المحافظة وإيمانه الديني في حكاية قابيل وهابيل في إشارة بصرية خاطفة حين يبصر لوحة تلخص وقائع سِفر التكوين من الكتاب المقدس.

هذه التجربة تتسرّب لوعي "دوس" وتتلاحم مع حاصل جمع تجاربه في الطفولة والمراهقة، وخاصة في تلك المرة التي حمل فيها والده السلاح ضد والدته بعد نوبة سُكر وجعلته منذ ذلك الوقت حاسمًا لموقفه ضد حمل السلاح والتحول إلى مستنكف ضميري ورافض للقتل تحت أي مسمّى مهما كان، صحيح أننا قد نرى أن ظروف "دوس" في الطفولة كانت بالغة الصعوبة، إلا أن النص لا يتمادي كثيرًا ليحولها إلى طفولة "ديكنزيّة" (نسبة إلى الكاتب البريطاني تشارلز ديكنز الذي مر معظم أبطال أعماله الروائية بفترات طفولة قاسية)، ولا حتى يجعلها طفولة مفرطة في السعادة، بل هى فترة تحمل في داخلها النقيضين معًا، كما لا يدفعنا بشكل كامل لكراهية اﻷب أو للتعاطف معه بشكل كامل من جراء العذابات التي يعانيها، بل يضعنا في موقف بين بين منه.

إن ما شاهدناه في المقدمة باﻹضافة إلى حكايات اﻷب عن تجاربه القاسية خلال الخدمة العسكرية وموت رفقائه أمام ناظريه تعطينا بالطبع فكرة واضحة عن طبيعة الحرب القاسية التي لا ترحم والتي لا تضع من يخوضها سوى خيارين فقط؛ إما أن تَقتل أو أن تُقتل، حتى باتت معادلة ثابتة، لكن لمن يملك نظرة أوسع ممن حوله عما تعنيه الحرب، ولم تحمل يداه دماء أعدائه، ولم يحمل حتى سلاحًا، يتأثر ثبات هذه المعادلة ويهتز بعنف، ويمكن حتى إضافة خيار جديد لها وهو؛ إنقاذ ما يمكن إنقاذه من اﻷرواح.

تلك الرؤية العريضة والمتجاوزة من عيني "دوس" تواجه أغلب الوقت سوء فهم وتعنت من القادة العسكريين وبقية الجنود الذين اعتادوا على تلك الرؤية الثابتة للحرب، أن يكون الجنود مجرد وقود يتم حرقه في سبيل النصر بأي ثمن، لكن من فكر في الوصول بأقل خسائر بشرية قدر اﻹمكان حتى لو كانوا من صفوف العدو سوى شخص بهذه العقلية، قد ترى هذا الشخص في النهاية امتداد جديد لكل من (ويليام والاس) في "Braveheart"، (المسيح) في The Passion Of The Christ و(قدم النمر) في "Apocalypto" ولن تكون مخطئًا على اﻷرجح.

من السهل قسمة بنيان الفيلم إلى قسمين متساويين وواضحين؛ اﻷول يقدم فيه "دوس" منذ الطفولة والنضوج وقصة حبه وانضمامه للخدمة العسكرية وحتى مواجهته للجميع بسبب اسكتنافه ورفضه حمله للسلاح، وهذا النصف اﻷول قد يشكل حصيلة جمع التجارب البشرية التي شكلت عقلية "دوس" ورؤيته النظرية التي لم تجد فرصتها حتى اﻵن للإثبات، والنصف الثاني بأكمله هو إثبات لهذه الرؤية النظرية عمليًا ووضعها موضع الاختبار، حيث نرى فعليًا ما يقدر "دوس" أن يقوم به.

ولهذا يصير النصف الثاني من الفيلم تجربة حية جدًا، "جيبسون" لا يحاكي تجربة الحرب بل يصنعها من جديد ويضعك كمشاهد هناك مثلما فعلها أمام تجاربه القاسية التي أخضع لها أبطاله السابقين سواء الحرب أو العقاب والتعذيب حتى الموت والتقديم كقربان بشري ﻹرضاء اﻵلهة، وتخرج حتى على نحو أعنف مما رأيناه في المقدمة، حاشدًا لها كل قدراته اﻹخراجية حتى تتجاوز فنيًا من وجهة نظري الربع ساعة اﻷولى من "Saving Private Ryan"، وجامعًا فيها لكل شيء؛ الشحنة العاطفية، المباغتة، جودة تحريك الجموع، جودة اختيار وتعانق اللونين البرتقالي واﻷخضر مع الرماديات باختلافها، وبالطبع جرعة العنف المركزة.

بعد كل الانتظار الذي أحاط بهذا الفيلم، ينجح ميل جيبسون في كل ما أراد قوله حول العنف المترسخ في نفس الانسان، وأنه من الممكن مقاومته فقط إذا نظرنا لهذا العالم المتصارع بعين جديدة مثل عيني (ديزموند دوس).

وصلات



تعليقات