"نحبك هادي".. ولَو مِش هادي!

  • نقد
  • 09:46 مساءً - 13 مايو 2017
  • 1 صورة



مجد مستورة وريم بن مسعود في مشهد من فيلم "نحبك هادي"

أحيانًا يُفضِّل المرء الاستسلام للأمور عِوضًا عن مقاومتها، أن يتركها تحدث دون مجهود يبذله، وأن يُسيرها الآخرون له دون حتى إبداء رأيه أو اعتراضه.. وربما يجد تعزيته في القيام بما يحلو له بينه وبين ذاته دون علم أحدهم، فطالما ما يُسيّرون له أموره لم يبلغ مرحلة الجحيم بالنسبة له بعد، وطالما يفعل ما يرغبه سرًا -وإن كان في أضيق الحدود- دون اصطدام معهم ومع رغباتهم في شئونه، إذًا فلما نختلق مشكلة تُعكّر صفو الصورة التي تبدو في ظاهرها طيبة؟!

ربما هذا كان المبدأ الذي تبنّاه "هادي" بطل فيلمنا نحبك هادي، والذي عُرض في افتتاحية مهرجان أيام القاهرة السينمائية الثلاثاء الماضي، وارتضاه لزمن ليس بالوجيز، فأمسى ريشة تحملها الرياح مع تيارها، ريشة تنفخ بها والدته حيثما شاءت في حياته الخاصة، وينفخ بها مديره حيثما شاء في حياته العملية، وهو مستسلمٌ هنا وهناك لقذفهما له أينما أرادوا دون لائمٍة تصدر عنه، بل يترك نفسه في سلام لدَفع الرياح، ويتأرجح خلسة يمينًا ويسارًا بعض الأوقات دون أن ترصده العيون.

والغريب في الأمر أنك تحب هذا الشاب المستسلم للأمور بالفعل! فرغم أن دَفتُّه ليست تحت قيادته، والجميع يُطوُّحونه كيفما بدا لهم، إلا أنك تشعر بشخصيته موجودة، وأنه يترك نفسه لهم بإرادته لأنه يمقت إثارة مشاكل يمكنه تلافيها.. ولذلك إشارات، فمثلًا حينما ذهبت به والدته لعقد خطوبته على الفتاة "خديجة"، ثرثرت والدته لأهل الفتاة عن موهبته في رسم اللوحات الشخصية وإبداعيته بها، في حين أنه لا يملك هذه الموهبة. وشهدناه بعدها في منزلهم يسأل والدته عن سبب كذبها وقولها إنه يرسم مثل هذه الأشياء، فأجابته أنه حديث لا يضر وأنه كان لفتح باب نقاش لا أكثر. ربما رد فعل "هادي" ليس بالعظيم، ولم يرتقِ لرتبة الاعتراض حتى، فقد اقتصر على إبداء الملاحظة فقط. لكنه يبرهن لك أن الفتى ليس خاملًا بالكامل وليس جثة هامدة يحركونها وكفى، فهو يلاحظ ويرقب ما يقوم به الجميع، وإن ارتكن للصمت فهذا هو اختياره.

ونراها أيضًُا حين يذهب لحمام السباحة ليقضي نهاره به، بينما من المفترض أن يجوب الشوارع باحثًا عن عملاء يعقد معهم صفقات لشركته؛ لكنه لا يحب وظيفته، وإن كانت أمه ومديره يرغمونه عليها، إذًا فليصدقان أن رغبتهما جارية، ولأسبح أنا قاضيًا نهاري في المياه كما يحلو لي، ولا بأس أن تتأرجح الريشة يمنًة ويسارًا دون أن ترصدها العيون.

فرغم ما يُبديه "هادي" من السلبية الكبيرة في توليه الصمت أمام تطفل الجميع على أموره، إلا أنك تشعر بشخصيته موجودة، وتحب الفتى دون البحث عن أسباب.

الآن، "هادي" يعمل بوظيفة ليست من اختياره ولا يهتم أن يجيدها، مرتبط بفتاة لا يحبها ولا تروقه شخصيتها أحادية الأبعاد، وتكتنفه أمه بتسلطها في أدق تفاصيله، ولا زال يترك الأمور بعيدًا عن أي صدامات هو في غنى عنها.

لكن الأمور تختلف حين يلتقي "ريم"، فتمنحه سلامها وتغمره بحنوها، ويكتشف معها أنه يرغب ويريد لرغبته أن تتم. فلأول مرة يشعر بأن الأشياء لها طعم، وبأنه يريد أن يقضي الوقت بجانب شخص بعينه، وأنه يريد للأمور أن تتجه في مسار مُحدد لا يبعد فيه عنها، هو يحبها ويذوب بتفاصيلها، ويرغب بأن يعانق روحها ووجودها أينما كانت.. الآن، الريشة ترفض أن تذروها الرياح، وتأبى أن تتأرجح بعيدًا عن محيط ريم ومجالها.

"هادي" هادئ الطباع المُسالم، آن لرغباته أن تظهر وتصطدم برغبات المتطفلين. هادي الذي أحببناه وهو سلبي لا يرغب في الاعتراض، سنحبه أكثر حين يثور ويخرج عن صمته، سنحبه وهو يتشبث بعشقه لريم ويقف أمام كل شئ بعدما كان يستسلم لأي شيء.. هادي يُصارح خديجة بأنه لا يرغبها في واحد من أطرف مشاهد الفيلم، حين يصيح عليها بأنها ترسل له رسائلها المُعبرّة عن اشتياقها له وتمنيها أن يحتضنها بذراعيه وأن تضمه إليها، يصيح قائلًا أنه أمامها الآن فأين لهفتها تلك وأين شوقها السرمدي الذي أضجرته بحديثها عنه، يخبرها بأنها لا تمثل مُبتغاه، يخبرها ذلك قبل زفافهما بيوميّن، ثم يغتال صمته ويثور على والدته في واحد من أجمل مشاهد الفيلم قاطبًة إن لم يكن أجملها على الإطلاق؛ يغضب ويصرخ مستجديًا والدته أن تتركه لحاله، وأنه سئِمَ تسلطها وتطفلها على أموره، يستجديها بأن تدع له حيزًا للتنفس، فقد أذعن لرغباتها دون كلل طيلة عمره، ولكنه الآن وقع في الغرام ووجد من يألف الدنيا معها ويرتضي بجانبها أي شيء.. هادي يرفض ويُعاكس تيار الرياح، هادي يرغب بالحياة لأن ريم دلتّه عليها بروحها، هادي يُغرَم بريم، ونحن نُغرَم بغرامه لها.

ولا يتوقف هادي عن مباغتتنا بخروجه عن المألوف، ويفاجئنا بقراراته التي يتخذها في الثلث الأخير من الفيلم، فتشهده وهو ينفض عن نفسه صمت السنين، وتعجَب لقراراته واحدًا تلو الآخر، لكنك تُعجَب بها وإن خالفت توقعاتك.

الفيلم جميل وحالته الإنسانية تروقك وتجذبك، فـمحمد بن عطية، مؤلف الفيلم ومخرجه، أجاد كثيرًا صنع تجربته الإخراجية الأولى، وتمكّن من رسم شخوصه بشكل واعٍ وأعطى للعلاقات ثقلها المطلوب، وانتقل بنا بتؤدة في تحولات شخصيته الرئيسية فلم نشعر بمبالغة أو قفزة في مكانٍ ما، كما أجاد أيضًا قيادة ممثليه، فكانت صباح بوزويطة متميزة للغاية في أدائها دور الأم المتسلطة، وريم بن مسعود كانت جميلة وآسرة في شخصية ريم، حالمة دومًا، تغمر هادي وتغمرنا جميعًا بحنانها الفياض وعيناها التي تحكي كثيرًا، وأخيرًا مجد مستورة في دور هادي، كان مقنعًا للغاية وقادرًا على الإشارة لوجود شخصيته رغم استسلامه التام، وحين ثار لم يضل إقناعنا أبدًا بل بالعكس زاده؛ ففي مشهد ثورته على والدته، ومشاهده الأخيرة مع ريم، برهان كبير على أنه ممثل موهوب متمكن من أدواته تمامًا، وتُحسَب له براعة أدائه لشخصية بهذه التحولات. وبهذا نجد الفيلم جديرًا بفوزه لجائزتي مهرجان برلين عن أفضل عمل أول وأفضل ممثل.

الفيلم جيد ويترك أثرًا طيبًا بك، تحب حالته وتروقك تطورات علاقات شخوصه، وتحولات بطله، فأنت طيلة الأحداث تنتظر أن يثور هادي، وتبتسم لتشبثه بريم وحبه لها، ثم تكتشف أنك أحببت الفتى حين التزم هدوئه، وأحببته أكثر حين تمرد على هذا الهدوء.

وصلات



تعليقات