"هروب اضطراري".. تصحبهُ دراما غير اضطرارية

  • نقد
  • 04:34 مساءً - 7 يوليو 2017
  • 1 صورة



هروب اضطراري

عندما طُرحَ إعلان الفيلم على شبكة الإنترنت، أذهل مُشاهديه بنخبة النجوم التي يجمعها، وأحكم إذهالهم بلقطات الأكشن الواعدة التي ينضح بها، والتي لازمتها تقطيعات صوتية مُطابقة لطبيعة الحركة أثارت إعجابًا كبيرًا فأبرمت وَعدًا للجميع بأن الفيلم يحمل كثيرًا في طياته، غير ما لوّحت به من اهتمام شديد يُوليه صُنّاع الفيلم حتى لإعلانه. فلم يسعنا سوى الانتظار لنشاهد ونحكم، بينما تداعبنا آمالنا الواسعة في أننا على وشك لقاء فيلم مختلف.

ثم جاء هروب اضطراري مُحافظَا على وعده منذ اللحظات الأولى؛ ليُقحمك في مطاردات تخطف الأنفاس ويُرهَق لها أدرينالين جسدك. أنت لا زلت تجهل من هم الذين يفِرّون ويكرون أمامك على الشاشة، لا زال اكتراثك بهم غائبًا أو بالأحرى لم يُولَد بعد، لكن براعة تنفيذ ما يحدث من مناورات - وإن تجاوز بعضها حدود المنطق بمسافات - يستجدي حواسك ويستجلب اهتمامك. تنخرط بما يُلاقيك من إثارة دون أن يفارقك فضول معرفة هؤلاء الذين يتحلقهم الخطر من كل صوب واتجاه. وحين يخفت وهج الخطورة الذي اكتنف الشاشة لدقائق ليست بقليلة، تبدأ في البحث بضراوة عن هؤلاء الهاربين وما ورائهم ليدفعهم للهروب بعدما وجدوا أنفسهم فجأة بين شِقي الرُحى.

دعونا نتفق أولًا أن المطاردات والخدع مّنفذّة بمستوى متميز لا يُشَق له غُبار، ومُفاجئ نسبًة لفيلم عربي، فهو يصرخ بأن هناك فريق عمل كبير وإعدادات مُتقنة ليخرج بهذا الشكل، كما سنتفق أن بداية الفيلم بهذا الكَم من تلاحق الأنفاس، ستُهيئك بأنك على موعد مع الإثارة وسيتسع صدرك بأن القادم قادر على حيازة إعجابك، فضلًا عن أن البداية الشيقة المفعمة بالأدرينالين - دون أي مقدمات - تُدعّم عنصر الغموض بقوة، لتجد نفسك أصبحت مُهيئًَا بالفعل لأن يكون القادم كله على هذه الشاكلة طالما أنه بمثل هذه الحرفة في التنفيذ.

يشرع الفيلم في فرد حبكته التي تدور عن لغز تورط أبطاله الأربعة في جريمة قتل لا يعلمون شيئًا عنها، حتى أنهم يجهلون القتيل نفسه؛ وهي حبكة لا بأس بها على مستوى الغموض لكنها لا تُفسِح مجالًا كبيرًا للدراما. فبعد أن يملك "هروب اضطراري" مُعطياته للنجاح؛ نخبة النجوم، خدع حركية مُتقنة للغاية، وغموض قد يحافظ على انتباه المُشاهد للنهاية، يقرر ألا يكتفي بهم، ليترنح بينهم وبين دراما ينفضح تكلفها في كل لمحة وإشارة لدرجة قد تثير ضيقك كمُشاهد لأكثر من مرة.

فبعد أن اختار الفيلم إقحامك في ذروة الأحداث والإثارة دون اللجوء إلى أي مقدمات أو بناء للشخصيات، وهو ما يُوحي بأنه لن يتجه لهذه المنطقة إلا تسللًا لا أكثر، تجده طيلة الوقت يجنح إلي مشاهد درامية تفتقر للبناء وأحيانًا المبررات، ينفذها شخوص أنت بالكاد تعرفهم، فتكون المحصلة تكلف فوق تكلف.. فمثلًا أبطالنا لا يعرفون بعضهم البعض، رغم هذا تجدهم في بداية لقائهم يسعون لمواقف فيما بينهم تنطوي على كم كبير من الحب والعِشرة، في حين أنهم يلتقون للمرة الأولى وتجمعهم ظروف كفيلة وحدها بأن تفقدك الثقة في أشقائك، لتجلس أنت وتتابعهم مبتسمًا من تماديهم في هروبهم من المنطق بجانب هروبهم الاضطراري.

هذا غير مواقف أكثر من عادية، تجدهم يصرخون على بعضهم دون سبب يُذكَر، لدرجة أن "ندى" التي تقوم بدورها غادة عادل، تقريبًا لا تنطق إلا صراخًا، بينما يقتصر صراخها على جملة واحدة تُبدي فيها قلقها الدائم على ابنتها. غير مواقف أخرى يتناقش فيها أبطالنا بهدوء وتدبر، ثم تجد أحدهم فجأة يصرخ على الآخرين وقد أوشك على هتك أحباله الصوتية بعبارة "رُدوا عليا"، بينما يغيب عنك لماذا انتابه الجنون هكذا!

أنا لا أكره الدراما، بل هي من مفضلاتي، ولكن إن كنت ستقدمها لي أحسِن تقديمها، أو على الأقل لا تبُدي بها ابتذالًا، فأنت حتى لست مضطرًا لتقديمها هنا. لكنك تتناوب على لمسات رومانسية وإنسانية لا تصطبغ بذرة حقيقة، ثم تُصِّر على تقديم مشاهد درامية دون أي مبرر لها أو أي بناء يدعمها وكأنك مُضطّر لها! فلا تترك لي فرصة الفرار من شعوري بتكلفها البالغ.

شكل دراما الفيلم لم يسمح بأداءات تمثيلية تستوقفك. مصطفى خاطر كان له بعض الدعابات ولكن أدائه عادي، غادة عادل - وهي ممثلة أحبها - أدائها لا يمت لصلة بقدراتها التمثيلية، أحمد السقا يُضخِّم صوته بشكل غريب وكأنه ابتدع لازمة مُتقنة لشخصيته، لكن أدائه بالفعل جامدًا لا يقتنص أي تأثير. ربما أمير كرارة هو الوحيد بين أبطالنا الأربعة الذي تمكن من فرض حضور لشخصيته بأدائه وتمكن من خلق كيان له وجوده. وأخيرًا فتحي عبدالوهاب في دور "الضابط عصام"، والذي لا يمكن وصفه سوى بـ"كريزة الفيلم"؛ أداء رشيق مقنع مُبهج لأبعد حد، لوازمه الذي اعتنى بها، مثل طريقته في الحديث بينما يمتلئ فمه عن آخره بالطعام، فينطق ويلوك الطعام بذات الآن في طريقة مقززة لكنها تُضحكك مع الوقت، جمله الحوارية خفيفة الظل وتعبيرات وجهه الساخرة باختلاف المواقف؛ فيُمسك بكل تفاصيله ويقنعك بها، لدرجة تُصيبك بالدهشة في أنه إذا كان بمقدور صُنّاع الفيلم إبداع مثل هذه الشخصية، فما بالهم في بقية الشخصيات وتلك الدراما الغارقة بتكلفها، لتجد الجواب الأوحد هو أن فتحي عبد الوهاب ممثل ذكي متمكن، وأمير كرارة مجتهد موهوب.

الفيلم في مجمله جيد، به مزايا عديدة لا يمكن إغفالها؛ تنفيذ الخدع الممُيز وصناعة أكشن بهذه القدرة، أسلوب التصوير بالدرون أو من الهليكوبتر، فريق حافل بالنجوم ونخبة أكبر من نجوم - أصحاب أسماء كبيرة - ظهرت كضيوف شرف حتى وإن لم يتجاوز ظهورهم لحظات، إنتاج السبكي لمثل هذا الفيلم وقراره بأن يُوجّه جهوده لصناعة فيلم من هذا النوع، ثم إخراج أحمد خالد موسى المُلفِت في تجربته السينمائية الأولى. المزايا عديدة والفيلم فعلًا يستحق التحية، لكن تبقى غُصّته المزعجة بالحَلق هي درامته بالغة التكلف والغير اضطرارية بالمرة.



تعليقات