Dunkirk... جراب كريستوفر نولان الفارغ

  • نقد
  • 10:18 صباحًا - 25 يوليو 2017
  • 1 صورة



Dunkirk

حتى مع كونه كلامًا معادًا وبديهيًا، يبدو من الواضح أننا سنحتاج دومًا للتأكيد والتذكير بين الحين واﻵخر أن أي فيلم لا تقوم له قائمة ويكون عظمه صلب ومتين ويتحمل الوقوف على ساقيه إذا اعتمد في قوته على عنصر واحد فقط أو بضعة عناصر قليلة بدون تضافر بقية العناصر وعملها بشكل متزامن معًا لتكون التجربة السينمائية في كليتها، وإلا سيغدو عملًا هشًا يطير من نفحة هواء، مجرد امتلاك الفيلم لفكرة مبدئية مبشرة لا يكفي لبناء عمل سينمائي، مجرد تواجد عناصر بصرية لافتة للنظر لا يكفي، مجرد وجود طاقم مميز من الممثلين لا يكفي، مجرد وجود نص جيد لا يكفي، أو كما قلت من قبل في مقالة سابقة عن Interstellar، مجرد وضع كامل الرهان على عنصر واحد لا يكفي لصناعة عمل سينمائي، وإنما ينتج عنه شبح عمل سينمائي.

بعيدًا عن عالم الجريمة في Following وMemento، وعن عالم القصص المصورة في ثلاثية Batman، وحتى عن الخيال العلمي في Inception وInterstellar، يقرر الكاتب والمخرج البريطاني كريستوفر نولان هذه المرة العودة للتاريخ، وبالخصوص إلى الحرب العالمية الثانية، مركزًا على حدث رئيسي فيها ضمن فصول الصراع المحتدم بين دول الحلفاء والمحور، وهى واقعة حصار جنود الحلفاء في مدينة دنكيرك الفرنسية وإنسحابهم الذي وصف بكونه واحدة من أكبر عمليات اﻹنسحاب العسكري في تاريخ البشرية، حيث نجا منها ما يربو عن 300 ألف جندي.

يختار نولان عرض فيلمه عبر متوالية زمنية بين ثلاثة خطوط تتفاوت في مددها الزمنية، مقيمًا بينها صلات وصال وانفصال تصب كلها في الحدث الرئيسي الذي يركز عليه الفيلم: الخط الأول- استعراض لما تعانيه القوات المحاصرة برًا في دنكيرك على مدار أسبوع، الثاني- متابعة رحلة إحدى المراكب المدنية التي لبت النداء لنجدة الجنود المحاصرين على مدار يوم كامل، الثالث- متابعة مجموعة من الطائرات الحربية المشتبكة مع العدو خلال ساعة واحدة.

حسنًا، إذا نظرنا للأمر من وجهة نظر نولان، لنفترض أن هذه المتتالية ثلاثية الخطوط تعمل باﻷساس داخل الفيلم على عرض أكثر من وجهة نظر لنفس هذا الحدث الضخم الذي يشكل محطة مفصلية في الحرب، باﻹضافة إلى القيام ببعض التلاعب البسيط في الخط الزمني للأحداث ﻹثارة الانتباه إلى أزمة الجنود المحاصرين، هل هذا وحده يكفي ﻹثارة تفاعل المشاهد مع ما يتم تقديمه في الفيلم؟ قطعًا لا، لماذا؟

ﻷن البنية السردية هى بمثابة عمود فقري للعمل السينمائي، وتستند عليها بقية عناصر العمل ولا يمكن إنكار دورها بالطبع، لكن في نفس الوقت لا تصلح وحدها ليقف الفيلم وحده على قدمين ثابتتين، لا بد من إيجاد ما يدعم هذا العمود الفقري على الصعيد الدرامي بشكل قادر على إثارة اهتمام المشاهد بما يحدث امامه سواء أحداث أو تفاصيل شخصية أو أية رابطة ولو ضئيلة تربطه بالشخوص الضالعة في الحدث، وإلا فسرعان ما سيطرح المتلقي على نفسه سؤال هام: لماذا أشاهد ما أشاهده هذا بالضبط؟

في Dunkirk، لا يوجد ثمة شيء يربط المشاهد بهذه الزمرة من الجنود، نحن لا نعلم عنهم شيئًا ولا يعطينا نولان أي شيء يجعلنا نرتبط بورطتهم الكبرى تلك ولا تجعلنا حتى نبالي بهم من اﻷصل، اﻷمر يماثل مرورك من أمام واجهة زجاجية لمطعم، أنت تراقب شفاه تتحرك ورؤوس تؤمي لبعضها البعض ووجوه تتبسم بين الحين واﻻخر، لكنك في الوقت ذاته لا تشتبك معهم ولا في أحاديثهم، أنت تراقب فقط، وقد يكون هذا مناسبًا على الصعيد السينمائي حينما يكون هذا مقصودًا من صانع الفيلم ليضع مسافة بين المتلقي والحدث مثلما نرى مثلًا في Apocalypse Now، لكن ليس في عمل يحاول التأثير في مشاهده من خلال اﻹطار الخارجي لحكايته فقط وبمتتاليته الزمنية هنا التي تشابه اﻹطر الخارجية ﻷعماله السابقة وفي طبيعة الحيل التي تحملها.

في هذا الفيلم بالذات، يتضح أكثر من ذي قبل عجز نولان عن صناعة الدراما كما نعرفها، كل ما يجيده هذا الرجل حرفيًا هو إضافة أكبر كم ممكن من المنعطفات الدرامية و"التويستات" التي تقلب القصة في كل مرة رأسًا على عقب حتى باتت غاية لذاتها وليست وسيلة سردية، من الواضح أن فكرة هذا الفيلم قد وردته من قراءة بعض ما كتب عن هذه الموقعة على موقع "ويكيبيديا"، وقرر على أساسها صياغة فكرة مبدئية بالغة السطحية عنها، لذلك لم يكن من المهم بالنسبة له وجود شخصيات نتعاطى معها، أو قدر بسيط من الدراما، أو حتى بعض التفاصيل التي تدخلنا من نتابعهم هؤلاء، وإنما يمعن في تقديم هذه الموقعة بأقصى درجات الجفاف السردي، وكل ما يهم هو اللعبة التي يريد ملاعبتنا بها عبر متتاليته الزمنية.

وحتى حين يمنح المشاهد خلفية ما عن هذه الموقعة، يأتي هذا من خلال مشهد حواري في بداية الفيلم يحمل الكثير من التلقين المباشر المروي على ألسنتهم، مما يجفف أكثر فأكثر منابع الفيلم، ويجعل التقديم لا يتجاوز ما نراه على السطح بأي حال من اﻷحوال.

وفي محاولة يائسة ﻹثارة التوتر في نفوس المشاهدين، يلجأ نولان للسلاح الذي أنقذ ماء وجهه أمام محبيه المخلصين أكثر من مرة، وهى موسيقى هانز زيمر التي تترجم فكرة ضيق الوقت أمام الجنود لموسيقى خفيضة تتردد في خلفيتها تكات الساعة دون توقف حتى قرب النهاية، لكن حتى هذا السلاح المضمون في يد نولان لا يفلح في إثارة الاهتمام الكافي لدى المشاهد، صحيح أنها تحمل الكثير من عبء الفيلم، لكنها لا تكفي وحدها أبدًا لترفع نسبة اﻷدرينالين وتضخ الدماء في أوصال أحداث ميتة وصورة ساكنة، جرب أن تكتم الصوت وتشاهد الفيلم بدون موسيقى، ستلاحظ مدى اعتيادية ما تراه كصورة.

ماذا يبقى لنا اﻵن؟ آه... عنصر الصورة، حسنًا، نحن نتحدث عن حدث فارق بالغ الضخامة شارك فيه اﻵف البشر، لكن الفيلم لا يمنح مشاهده هذا اﻹحساس على اﻹطلاق بجلال وضخامة وهيبة هذا الحدث، كل المشاهد والقطعات المونتاجية في الفيلم تمنحنا اﻹحساس بأن الحدث لم يشارك فيه سوى بضع عشرات أو مئات اﻷشخاص على اﻷكثر، ويجعلك لا تشعر بأن اﻷمر كان على هذه الدرجة من الفداحة كما يمهد لذلك في لوحاته الافتتاحية، كل ما نراه من مشاهد متكررة بفعل مونتاج عقيم تداولنا -وخاصة في تتابعات البر- بين مجموعة جنود محصورين في بقعة واحدة أو مجموعة صفوف ينتظم داخلها الجنود عل شاطيء البحر ونراها من الجو، وكل هذا ﻷن نولان يمارس نوعًا ما من الطهرانية والترفع عن اللجوء للمؤثرات البصرية لخلق الشعور بضخامة العدد مع أنه لا يوجد عيب في استخدامها طالما كانت تحت السيطرة من قبل المخرج، بدلًا من خروج الصورة بهذا الفقر البصري المرعب.

وحتى لو سلمنا بأن الفيلم يتناول فقط الجانب البريطاني للحدث وشيء من الجانب الفرنسي، فنحن لا زلنا نتحدث عن جيوش دول عظمى وليس فريق مشجعين في استاد رياضي، ولا يزال عدد المشاركين في الحدث الحقيقي التاريخي ضخم، ولا يوجد أي مبرر لظهورهم على هذا النحو المزري على شريط الصورة

قارن هذا الفيلم بتنفيذ مشاهد إنزال النورماندي في فيلم Saving Private Ryan وكم العناصر البشرية المتواجدة التي ضخت واقعية اكبر للصورة، أو حتى كم المجاميع البشرية التي تم اللجوء إليها خلال تصوير فيلم Titanic لتقدم هذه الكارثة البحرية الشهيرة كما يليق بما سجل عنها في التاريخ وكم الضحايا الذين قضوا نحبهم فيها.

نفس الفقر البصري لا يختلف كثيرًا في تتابعات الجو، أغلب الكادرات التي نراها من زوايا محدودة جدًا، ودائمًا إما من جانب الطائرة اﻷيمن أو جانب الطائرة اﻷيسر أو حتى في مواجهة الطائرة، لا أعلم لماذا يصر نولان على هذا الزوايا التصويرية فقط، كل هذه السماوات الرحبة والمفتوحة أمامه ولا نرى منها إلا النذر اليسير، نفس المشكلة التي واجهته في مشاهد السفينة الفضائية بعد انطلاقها في رحلتها الطويلة في Interstellar التي تميزت هى اﻵخرى بمحدودية زوايا تصويرها، ورسخ محدوديتها في كلا الفيلمين المونتاج الذي لا يحاول إصلاح ما أفسده نولان بهذا اﻹصرار العنيد.

خط الجو بالذات يظهر فيه مشكلة مونتاجية قاتلة، لاحظ أن هذا الخط تدور أحداثه على مدار ساعة كاملة، لكن مع فرده على طول مدة الفيلم ليصير خطًا دراميًا قائمًا بذاته، تظهر حالة من الركود الواضح في جنباته، فبينما نذهب ونعود إليه من الحين للآخر خلال التنقل بين الخطوط الثلاثة، بالكاد نجد أي حراك في أحداثه يصل في اﻷوقات لدرجة الجمود التام.

كما أن فكرة تقديم فيلم حربي "غير دموي" لا نرى فيه قطرة دم واحدة ليست بشيء يستدعي المديح أو حتى التوقف عنده، فكل هدف هذه الخطوة هو زيادة نسبة الشرائح العمرية للمشاهدين المؤهلين لقطع التذاكر وحضور الفيلم في صالات العرض، لكنها في المقابل تخصم أكثر وأكثر من حيوية الصورة وواقعيتها، وتساهم في تجفيفها أكثر من كونها جافة ومسطحة بالفعل.

بهذه النتيجة النهائية المخزية، لم يكن هذا الفيلم ليتعدى كونه مجرد حلقة وثائقية محدودة التكلفة تذاع في سهرة مسائية على National Geographic أو The History Channel لولا وجود اسم نولان على تترات الفيلم، وهو السبب الوحيد والأوحد لحظو الفيلم بكل هذه الهالة وهذه الحالة من الانتظار لدرجة فرد غلاف مجلة Time للاحتفاء بالفيلم، ظنًا بأنه ساحر يأتي بالأعاجيب في كل مرة، لكنه في النهاية لا يعدو مجرد ساحر محدود الخدع بات جرابه خاويًا وفارغًا.

وصلات



تعليقات