Dunkirk.. تجربةٌ سينمائيةٌ تأتي مرةً في العُمر

  • نقد
  • 06:47 مساءً - 26 يوليو 2017
  • 6 صور



"إذا كان الهدف هو أن تُضحك الجمهور.. أو تُبكيه.. أو تُحمّسه.. أو تُخيفه.. فإن أعظم ما يمكن أن يتحلى به فيلمٌ ما، هو الحس السليم في دقة إختيار الوسائل والأدوات المستخدمة للوصول إلى هذا الهدف"

-سير كارول ريد

أتعلمون هذه الجملة التي تُردد كثيرًا عن أن سبب المكانة الجماهيرية الخاصة التي تتمتع بها أعمال المخرج البريطاني ذائع الصيت (كريستوفر نولان) أنه أكثر المخرجين المتواجدين على الساحة العالمية حاليًا الذي يمزج بشكل غريب بين كون فيلمه (فيلمًا فنيًا) عاليًا يصب فيه كامل رغباته وأفكاره الذاتية وبين كونه (فيلمًا جماهيريًا) لا يخلو من الصبغة التجارية؟.. لأن ما يفعله فيلمه الأخير (دانكيرك) هو أن يضع هذا التعبير في الواجهة ويصب كامل مجهوده وحنكة مخرجه ليتخذ منها قوامًا يطابق حرفيًا هذا الوصف، بصورةٌ ربما لم يصل لها أيا من أفلامه السابقة أن تكون بهذه النسبة المرتفعة من الإتّباع الحرفي للنظرية.

الفيلم الذي يحكي عن قصة الواقعة الحربية الحقيقية (دانكيرك)، التي احتُجز بها الجيشين البريطاني والفرنسي على هامش الحرب العالمية الثانية وسط غارات الجيش الألماني في محاولة منهم للبقاء أحياء وبعيدين عن أنظار العدو، إلى أن ترسل بريطانيا قوات الدعم لهم على أمل إنقاذ قدر المُستطاع منهم.. الآن عزيزي القارئ قبل البدء بالحديث عن أي شئ وقبل أن تنهال بلعناتك عليّ ووصفك لي أني من مهاويس نولان المُخلصين الذين يغفرون له كالبُلهاء عديمي الرأي لتقف لحظةً هنا ولتسأل نفسك سؤالًا في القالب الفيلمي: بماذا تؤمن أكثر.. أن تكون هناك قصة جيدة يُفسدها المخرج الردئ؟ أم أن يكون هناك قصة رديئة يبرزها المخرج الجيد؟.. بصيغة أخرى: ما مدى أهمية القصة في العمل السينمائي وما إحتمالية -في أنواع الأفلام عامةً- ألا تكون هي الهدف الأول للفيلم؟.. الآن إجابتك على هذا السؤال سيحدد إذا ما كنت تريد مواصلة القراءة معي أم لا.. لأني أعدك أنك إذا كنت من هؤلاء الذين كرهوا الفيلم -وهم عديدون جدًا بالمُناسبة- لن يروق لك كثيرًا ما سأعرضه هنا، وربما ستغلق المقالة في منتصفها وتتهمني بالتحيُّز لنولان.. إذن، بدون مقدمات أكثر من هذا، فلندخل في صُلب الموضوع مُباشرةً.

إذا نظرت عن كثب لطبيعة ونوع القصص التي طرحها نولان سابقًا ستجد أنه في فيلمه هذا ينتهج طريقًا مُغايرًا تمامًا لما عودنا عليه، جميع أفلامه السابقة تقريبًا يرتكز تفرُّدها على ثنائية (إستثنائية القصة/الإبداع الإخراجي)، هنا الرجل يتعامل -ولأول مرة في مسيرته- مع قصةً حقيقيةً، لا أقصد القول أن هذا سيعود بالسلب على رؤيته للمعالجة الدرامية، لكن لتأخذها بهذا الشكل: الرجل قدّم أفلامًا تتسم بالطابع الذاتي الشديد للحكاية، أفلامه ذات إبداعٌ قصصيّ بالمقام الأول قبل أن تكون ذات نهجٌ إخراجيّ مميز، الرجل كأنه يصوّغ لغته الإخراجية حسب أجواء وطبيعة ونوعية كل قصة يقدمها، نصوص أفلام مثل (إنسبشن/ميمينتو/إنترستيلار) كانت بحاجة شديدة لهذه النزعة الذاتية وهذا الكمّ من الخصوصية لتحوَّل أعمالاً سينمائية ذات رؤية ومضمون تتناسب قوّتهُما مع قوة قصصها.. الأمر البعيد تمامًا عن قصة فيلمنا هذا، القصة التي لا تتسم بأي نوع من الإثارة عند سردها بالكلمات، لذا فإختيار نولان أن يُزيح إستثنائية وعبقرية قصته التي عوّدنا على تقديمها لصالح (اللغة الإخراجية) والتكنيك، في فيلم حركيّ بالأساس مثل هذا، لا أعتقد أنه الشئ الذي يُنفرني من العمل هُنا كما لاحظت على معظم من لم يعجبهم الفيلم، بل بالعكس هو إختيارٌ موفق وجرئٌ للغاية، والأهم أنه (ليس إعتياديًا) في سينما نولان.

مفهوم الفيلم الحربي/البيوجرافي لدى الكثيرين هو الفيلم الدرامي جاد النبرة الذي يملؤه الشخصيات الحية على الشاشة التي يتعاطف معها المتفرج عند معاناتها، لأن هذه التيمة في الأساس تسرد قصص مُعاناة من نوعٌ ما، في فيلم نولان الأمر ليس عن الحرب بهذا المفهوم التقليدي للكلمة، هو أقرب لكونه عن حالة (الحركة) التي توجد في الحرب، عن الصورة الحقيقية -والمخيفة- لمعركة الحرب ذاتها التي تفرد لها الأفلام الحربية جزء ضئيلاً من مساحتها، نولان لم يرد أن يصنع فيلمًا عن الحرب.. بل أراد أن يقدم الحرب ذاتها من خلال النبرة التشويقية العالية لحالة الحركة التي تعصف بمُناسبةٍ كتلك، لأن هناك إختلافٌ كبير بين الإثنتين، فإختار أن تكون قصته هي معركة محددة ليس ما يعقبها ولا ما جاء قبلها، والنص لا يكترث حتى بذلك، هذا فيلمًا سيلتهمك تشويقًا ليس لتنجذب للقصة -كما فعلها ببراعة في إنسبشن مثلًا- بقدر ما تعيش القصة، التركيز الأساسي هنا هو البُعد الإنساني وليس السياسي أو التاريخي أو الإقتصادي، أنت تعيش داخل هالة المعركة الحربية وتلتمس الكثير من سمة المعاناة وما حصل فعليًا للرجال في الموقعة التي وصِفَت بأنها مُعجزة إخلاء حربية في التاريخ البشري الحديث.. الأمر الذي دائمًا ما يذكرني بأحد مشاهد فيلم (Titanic) التي حفرت في ذاكرتي للتعبير عن المعاناة الروحية، وهو مشهد تلاوة الآيات الربّانيّة قبل غرق السفينة بأن هذا المستقبل سيكون مُشرقًا ونحن من وقع علينا الإختيار لنكون عبرةً تُذكر للأجيال اللاحقة، وأنه (لن يكون هناك معاناةٌ بعد الآن).. هذه الروح التفاؤلية الغريبة التي تأتي من أكثر الأحداث ألمًا وقسوةً في الحياة، ومن قلب المأساة، وفي ذروة الكارثة.

القصة هنا تأخد ثلاث زوايا مختلفة الهيئة والدور وحتى الوقت في الفيلم، لكنهما مترابطين في وحدة الحدث الأكبر الحاصل، وهما أولاً: الجنود البريطانيين/برًا/إسبوعًا (من الحدث)، ثانيًا المساعدة الإنجليزية/بحرًا/يومًا، وثالثًا المساعدة الحربية/جوًا/ساعة، وهو شئ مفهوم على قصة فيلم تدور بالكامل حول معركة حربية قد يمل المُشاهد من متابعتها في ترتيب تصاعدي للحدث أو ما يعرف بـ(السرد الخطي)، لذلك فإن ميل نولان لهذه الصورة السردية يفيد كثيرًا نبرة فيلمه الحركية ذات الإيقاع السريع والتقطيعات المونتاجية التي تقفز زمنيًا -بصورةً قد يجد البعض أنها ليست سلسة- لتزيد من إهتمام المتفرج بالجانب الحركي أكثر من القصصي، ولعل قيامه بتكرار مشاهد مُعيّنة بزوايا سردية مختلفة ولعبه بزمن الحدث -في نبرة إختزالية مُتعمَّدة ربما لمتوالية (الزمكان) التي عصفت بفيلمه الأخير قبل هذا- ليكثف من النزعة الحركية في الأجواء العامة، وليُزيد من الطابع التشويقي للمعركة هو أمر ضروريّ على نوعية معالجة بهذا الشكل.

وهذا على عكس ما رأيته من التعليقات السلبية التي إنهالت على الفيلم فور صدوره وعصفت به تتذمر لكونه لم يملك قصةً جذابة ولا شخصيات يتعاطف معها المُشاهد، هذا لايهم أصلاً هنا، حقيقةً لا أدري كيف يتعاطف المُشاهد مع فيلم كهذا؟! لعله التعاطف الإنساني الأول للقصة ككل ورغبتنا -البديهية- أن ينتصر الخير وأن يجد المفقود وطنه، لكن هذا ليس فيلمًا عن معاناة أبطاله ولن يكون.. أمرٌ وجدته سخيفٌ للغاية وغير موضوعيّ لأن الفيلم منذ مشهده الإفتتاحي يُهيّأك ويُجهزك كاملاً أنك على وشك تناول وليمة بصرية من التشويق منقطع النظير ولا أكثر من هذا، يخبرك أن تُزيح كل ما وضعته من توقعاتٍ وما سمعته من تأويلاتٍ جانبًا لأنه ببساطة ليس نوعية الفيلم الذي يمكن أن تتوقعه من مخرج قدم للسينما تحفٌ فنية خالدة مازالت تُدهش من يُعيد مشاهدتها، رغم أن هذا بحد ذاته شيئًا من الخاطئ أن يفعله مُشاهد ومتذوق للسينما ويعتبر دربًا من دروب التشدد، لكن لا بأس الأمر مختلف هنا لأن الفيلم بدوره لمخرج مختلف هو الآخر.. القصة لا تُهيّأك أن تنتظر نتيجة المعركة بل بالعكس تعطيها لك مُباشرةً قبل حتى أن تدخل الفيلم بالكلمات المذكورة على البوسترات الدعائية، أنت تعلم أن النهاية ستغدو سعيدة وأن الـ(وطن سيأتي إليهم)، المُفارقة بين الرقم الذي توقعه قادة الجيش أنهم لن يتمكنوا من إنقاذ أكثر من 45 ألف جندي، وبين الـ325 ألف من تم إنقاذهم حقًا، المهم هنا ليس كل هذا الهُراء بل الكيفية التي تُنقل بها معركة حربية جامحة كتلك في هيئتها البصرية وفي تجربتها السينمائية، أن تنتظر قصةً من فيلمًا كهذا -بالمفهوم التعريفي للقصة في سينما نولان على الأقل- هو أمرٌ يدعو للسخرية، هذا الفيلم لا يتلامس -حتى- مع قصص نولان السابقة، لا تقارب في الطرح أو المعالجة أو في التوازن الحسي/المادي لأبطاله، أو حتى في نسبة البُعد الترفيهي/التُجاري من الحكاية التي هي في ذروتها هنا، هذا فيلمًا يُغرد وحيدًا خارج السرب عن تيمة أفلام نولان، الأمر الذي لا أستطيع منع نفسي من ربطه بحالة فيلم كوينتين تارانتينو (Death Proof) عندما قرر الرجل تصوير فيلماً فقط عن مطاردات السيارات وقال حينها: "إذا لم أستطع تقديم فيلمٌ به أفضل مشاهد مطاردات السيارات التي قُدّمت في تاريخ السينما، إذن فأنا لست بهذه الجودة".. وحينها تذمر الكثير من أتباع تارانتينو ومُحبيه المُخلصين ووصفوه بالفيلم الأسوء في مسيرته، بينما قال آخرين أن هذا يعتبر أفضل فيلم من الدرجة الثانية (B-Movie) قُدّم على شاشة السينما يومًا!!.. وهذا يُحيلنا إلى أسئلة شديدة الأهمية يجب أن يطرحها كُلاً منا على نفسه قبل الشروع بإبداء رأيٍ يتعلق بفيلم: وهي عن ماهية الفن ذاته؟.. عن فرضية السينما.. وفكرتنا عنها وماذا تُمثّل لنا؟.. هل لها وظيفة إشباع ذاتية فقط؟ أم مثلاً يمكن أخذها من البُعد الترفيهي بعيدًا عن إتصالها بالواقع؟.. هل دورها هو محاكاة الواقع؟ تعبيرًا عن ذاتِ صاحبها؟.. أم بعيدًا عن تلك الإعتبارات هي أعمالٌ يجب أن يُحكم عليها في حد ذاتها حسب نوعية قصصها؟

وبالحديث عن أفضل ما في الفيلم واللُبّ الحقيقي للعمل، فإن النزعة التشويقية عظيمة وليست أقل من ذلك، التكنيك هُنا هو كل شيء، الفيلم عبارة عن جرعة من الإثارة المُشبعة والحركة التي لا تهدأ المصنوعة بحرفيّة فائقة ستجعلك على حافة كُرسيك طوال مدة العرض ولن تشعر بواقعك وبما حولك إلا بعد إنتهاء التترات الختامية.. أكثر ما أقدّره في العمل هو رغم كونه ساعةً وستٌ وأربعون دقيقية من الحدث الواحد المتواصل إلا أنه لا يفقد إيقاعه لحظةً واحدة، وهو الأمر الذي إنتابني شكٌ -في بدايات الأحداث- على قدرة نولان أن يحققه، الإيقاع الحركي اللاهث هنا يكتنف العمل تمامًا، لا أتذكر رؤية فيلم بهذا الصخب الإيقاعي وكمّ الأدرينالين الذي يتدفق عبر الشاشة منذ تحفة جورج ميلر (Mad Max: Fury Road) منذ عامين، بل يتجاوزه ويتفوق عليه في مراحل أيضًا، أقولها صدقًا نولان يُعطي درسًا في التصميم المشهدي لما يتطلب عليه الفيلم التشويقي الشاحن أن يكون، لا أعلم إذا ما كان هناك أفضل مما فعله الرجل في فيلمه!.. التكثيف من الحس التشويقي في ظل وجود عددًا كبيرًا من المشاهد الملحمية سواءً في البر أم البحر أم الجو يعطي إحساسًا قويًا بأن ما تشاهده عينيك لم يحصل من قبل في فيلم سينمائي حربي، إستخدامه للكاميرات من جوانب الطائرات فوقًا وتحتًا ترصد السماء أمامها وتتحرك بشكلاً بندوليّاً أعطى متعة بصرية جمّة للمَشاهد، إهتمامه البالغ بالتتابعات الحركية في مشاهد مناورات الطائرات هو أمر حتمًا لم يسبق أن قُدِّم بتلك البراعة والخفة والجمال من قبل، مع التصوير الخارجي الدائم الذي يُبقينا على إتصال مُباشر مع الحياة.. أعجبني كثيرًا رغبته في تقديم وليمة بصرية بالمقام الأول وتجربة إنغماسية لم يشهدها مُشاهد السينما قبلًا عبر إستخدامه لآخر التطورات التقنيّة التي حلت على الكاميرا وإختياره بأن يكون أكثر من سبعون بالمائة من فيلمه مُصوّرًا بكاميرات الآيماكس ضاربًا به رقمًا قياسيًا لم يصل إليه فيلمًا من قبل، عملٌ تصويري ممتاز في تعاونه الثاني على التوالي مع مدير التصوير السويسري (هوتي فان هويتيما).. .. نولان في هذا كأنه إستجاب -بكُلّ المُباشرة التي يمكن تخيُّلها- من تعليقات الجمهور على فيلمه الأسبق (إنترستيلار) عن كونه مُرصّن بالمُحاضرات العلمية ومُبالغاته في إضافة حبكاته الـ(Plot-Twist) التي تشتهر بها كل أفلامه، الرجل كأنه خرج من جلده حرفيًا وقام بوضع كل تلك الأشياء جانبًا وقدم عملًا يخلو من أيا منها بطريقة عجيبة -وليست سهلة الإستجابة لمُتابعيه المُخلصين حتى- فقط لتُدهش ولتحظى بإعجاب هؤلاء الذين لم يستسيغوا محاضرته العلمية المُرهقة عن السفر عبر الزمن.

أيضاً، من الأشياء التي أراها تُحسب كثيرًا لنولان هو إختياره لقلة الحوار في مشاهد الفيلم وعدم إستخدامها إلا في أقصر الحدود، أنت لن تسمع أي نوع من الحوارات حتى تمر الثلث ساعة الأولى من العمل، وهي أداةٌ خدمت حكايتنا من خلال جهتين برأيي كانتا لهم الأثر الجليل على صميم الفيلم: الأولى هو إعطاء المساحة للحركة بالتفرُّد لتصبح هي الأداة الرئيسية التي يستطيع أن يُراوغ بها نولان مُشاهده، وكانت لتنتقص كثيراً من أجواء الفيلم الـ(بصرية) بالأساس.. والثانية تتعلق بطبيعة ظرف (الحرب) ذاته وهو ظرفٌ إستثنائي بكل ما تشمله الكلمة من معنى، لا يقل وطأة عن كارثة طبيعية أو مُصيبة بشرية، لذا فهي لا تجعل البشر على سجيتهم -كما قيلت بصورة مُباشرة في الفيلم- وتجعل القواعد الثابتة والظروف السايكولوجية تتغير وتتبدّل، لذا فقلّة الحديث هنا يخدم الحس الواقعي التي يعبر عنه فيلم مقتبس عن حكاية واقعية بالأصل.

وكما فعلها نولان بكثافة في كلا فيلميه السابقين قبل هذا، اختار أيضًا في دانكيرك التلاعب بأحجام اللقطات التصويرية فيما يسمى بالـ(Aspect Ratio) فقام بالمزج بين كاميرات الـ(35 مم الديجيتال - 70 مم الآيماكس) لتعزيز المشاهد الملحمية ولتكثيف التجربة البصرية عامةً، وكأن الرجل لا يريد أن ينتقص شيئاً من الوليمة البصرية التي يراهن عليها، الأمر الذي قد لا يُلاحظ على شاشة السينما وإنما أكثر في نُسخ البلو راي والـ(DVD) .. .. أيضًا من الأمور الغير تقليدية في المنطلق التصويري فكرة إختيار نولان نفس مكان الواقعة الحقيقية عنوان الفيلم -التي حدثت منذ قُرابة الثمانون عامًا- للتصوير فيه، ليعطي هذا الجانب التوثيقي/الحميمي للحكاية، وهو أمرٌ مفهوم، فالرجل بريطاني الجنسية بالأساس، ولديه الكثير من الولاء لدولته الأم الذي -ربما- قصد بذلك إعادة روح النوستاليجا وفرحة النصر عند المجمتع البريطاني.

أما بالنسبة لشريط الصوت فهو جبّارٌ وملحمي بطريقة لا توصف، هانز زيمر -في تعاونه السادس مع نولان- لا يضع بمقطوعاته الموسيقية الأخّاذة أحد أعمدة الفيلم الرئيسية فحسب، ولا يقتصر على إبهارُنا بالتوظيف الفعال لها ضمن سياق الحدث بالغ التأثير في نفس المُتلقي، بل هي تُشكِّل روح الفيلم ذاته، ونواة الرؤية الفليمية التي يريدها نولان بحيث لا يمكن تخيل العمل بدونها.. الأمر الذي جعلني لا أستطيع التوقف عن مُعاودة سماعها مراراً وتكراراً منذ أن ضربتني في صميمي وعصفت بذهني عندما سمعتها أول مرة بدار العرض.

لعل الأشياء التي أراها تؤخَذ على العمل هي هامشية تمامًا ولا تؤثر على مجرى الأحداث بقدر ما كان من الأفضل تفاديها فحسب، وهي تتلخص في ثلاث نقاط.. الأولى في عدم ظهور أيا من الجنود الألمان التي من المُفترض أنهم مُسببي هذه المعركة الكابوسية، أنت سترى فقط طائراتهم من الخارج بدون إظهار من بداخلها، الثانية في وجود المغني البريطاني (هاري ستايلز) ضمن طاقم العمل يخوض تجربته التمثيلية الأولى، رأيته شيئاً مُبتذلٌ تماماً وبه الكثير من نزعة الإستقطاب الجماهيري للفيلم بدون داعي، خصوصًا أن الشاب لم يرقُ لي أدائه ولم يقدم ما يشفع له، فكان من الممكن إستبداله بأي شاب جيد كحال الوجه الجديد ذو العشرون ربيعًا (فيون وايتهيد) الذي أعطى أدائاً ممتازاً برأيي، أما النقطة الثالثة فهي أن مشهد الإنقاذ لم يأتِ بذات القوة المَشهدية الحاصلة كامل مدة الفيلم من خلال الإهتمام بأقل الموتيفات لكل معركة، رغبتُ بأن أراه محبوكًا بشكل أقوى تأسر معها المُشاهد وتقتله شعوريًا ربما، الأمر بدا لي هوليووديًا قليلًا هُنا.

وهنا أريد أن أستوقف نفسي قبل نهاية حديثي لقول شيءٌ -خارجيّ عن محتوى المقالة قليلًا ربما- أعتقد أنه شديد الأهمية: الفيلم في تجربة سينما الآيماكس هو شيئًا من ضرب الخيال، لا أعتقد أنه سبق لأحد مُشاهدة فيلمًا بهذا الشكل من قبل أبدًا، الأمرٌ منطقيّ لما الجنوح نحو الإختيار بتصوير معظم مشاهد الفيلم بكاميرات الآيماكس، هي أشبه بكونها تجربة حياتية/روحية وليست مجرد سينمائية/ترفيهية.. الآن سينما الآيماكس عادةً ما تعرض أفلامًا لا تبرز أياً من السمات والخصائص الحقيقية لتجربة المُشاهدة تلك، وهذا بسبب الهُراء البصري التي تُغرقنا به هوليوود بمؤثراتها الحاسوبية السخيفة التي تكتنف أفلامها، هُنا الأمر يأخد المسار العكسي تماماً، أنت -لأول مرةً بحياتك ربما- ستشعر بأهمية وعظمة ومدى جُمح تجربة سينمائية كتلك التي لا تُقارن حتى بشاشة العرض التقليدية، لا أستطيع أن أصف تلك الحالة الشعورية التي غمرتني أثناء مُشاهدتي للفيلم أمام الشاشة العملاقة الحبيبة، أنت -حرفيًا- تعيش في عالم آخر تمامًا وتنسى كل ما بواقعك، تنسى نفسك وروحك بينما الفيلم -بنبرته التشويقية الثقيلة- يلتهمك إلتهاماً.. شيءٌ يُشعرني بالشفقة تجاه هؤلاء عاشقي السينما الذين لم تتسنى لهم فرصة إختبار روعة ومتعة تجربة خيالية كتلك لسببٍ أو لآخر، مشاهدة الفيلم هناك بمثابة هدية إلهية على عاشق ومهووس السينما المُعاصر، هي إحدى تلك التجارب القليلة جدًا التي تستطيع القول بضميرٌ مستريح -وهذه كلماتٌ صادرة من شخصٌ شاهد قرابة الثلاثون فيلمًا بهذه التقنيّة- أنها لا يمكن أن تُفوّت، لذا -فمن المولَع بالأفلام هذا لذلك المولَع الآخر الذي أعرفه- أنصح جداً بخوض التجربة بها إذا ما كانت قيد الإستطاعة.

هذا الفيلم هو (المُناسبة الصيفية) كما يقولون، عملاً سيُرضي هؤلاء الذين يعشقون السينما على مستوى البنية الأساسية حتى النخاع، قد لا يكون بنفس عظمة (إنسبشن) وتوغلاته السايكولوجية العميقة، وقد لا يصل لمستوى التحديات التي أرهقت نولان ورفاقه في (إنترستيلار).. لكنه كفيلم تشويقي/حربي يعلم تمام العلم ملعبهُ الخاص وما يريد تقديمه للمُشاهد، ويتباهى في فعل ذلك كما لم يفعل أحد من قبل، هذه تجربة من التجارب التي تعد على الأصابع التي يكون المرء بها محظوظًا مرةً أو مرتين في الحياة.. ربما لن تتذكر سوى مشهد أو إثنين منه بعد مُضيّ بضع أيامٍ على مُشاهدتك له، لكنك -بالتأكيد- ستتذكر أنك قضيت تجربة مثيرة ومُبهرة لأبعد الحدود.

...كفاني مدحًا، إذهب وشاهد الفيلم ولتنبهر بنفسك!


وصلات



تعليقات