A Beautiful Mind.. ثلاثية الإنفصام والعبقرية والحب

  • نقد
  • 04:56 مساءً - 26 سبتمبر 2017
  • 1 صورة



A Beautiful Mind

تنبيه: المقالة بها حرق لبعض أحداث الفيلم

أثناء مشاهدتي الأولى لفيلم رون هاورد (A Beautiful Mind) منذ بضعة أيام ظلت أفكر في مقولةٍ سمعتها عما قريب في أحد المقاطع اليوتيوبية للمخرج المصري داوود عبدالسيد عن أن الفيلم الـ(عظيم) هو الفيلم متعدد الرؤى، بمعنى أنه الفيلم القوي دراميًا حيث يصعب قصره على صنف أو تيمة واحدة، فتجد مجموعةً من محبي السينما يُشاهدون هذا الفيلم وكلًا منهم يخرج برؤية نقدية مختلفة تمامًا للعمل.. أنا لا أتحدث عن الجوانب الفنية أو عن ما وراء الكاميرا من ظروف إنتاجية، أنا أتحدث فقط عن الإمكانيات الـ(قصصية) للأفلام، تلك القصص الفيلمية التي تملك الكثير من الأبعاد والقيم ما يجعلها أفلامًا جماهيرية بالدرجة الأولى وذات مكانة خاصة لعشاق السينما، وتجد معظمها يتصدر القائمة الشهيرة لأفضل 250 فيلم في التاريخ على موقع (IMDb) بصورة غير منطقية وغير مُنصفة في معظم الأحيان، ميزة تلك الأفلام ليس فقط قدرتها على إشباع/إرضاء عددًا من الرغبات والميول في آنٍ واحدٍ، لكنها أيضًا تُمكّن المُشاهد الواحد من أن يتابعها بمنظورٌ مختلفٌ في كل مُشاهدة، وفيلم رون هاورد هذا هو بالتأكيد واحدٌ منهم.

في العمل الذي يحكيه هاورد عن عالم الرياضيات (جون ناش) نجد ثلاثةً من تلك الأبعاد يمكننا القول أن الفيلم برع في تقديمهم وتفرّد في إظهارهم ضمن بنية حكايته، قصة الفيلم مأخوذة بالأساس عن كتاب سيرة ذاتية يحمل نفس عنوان الفيلم كتبه الأمريكي (أكيفا جولدسمان) في شكل السيناريو وغيّر كثيرًا من أحداثها الحقيقية وأخذ قليلًا من الوقائع التي حصلت فعلًا في حياة ناش، براعة نص جولدسمان تكمن في قدرته على التحرك على عدة جبهات معًا ملامسًا عدة مواضيع مهمة دون أن يختل ميزانه لأيٌ منها على حساب حكايته الأصلية، يوظف هذه التفاصيل كلها في خدمة الحبكة في صورتها العامة، على هذا الأساس يمكننا أن نقول أن نص الفيلم عن إيمان الفرد بنفسه وإيجاد مسعاه/دوره في الحياة، أو عن أهمية الحب، أو عن تقبُّل القدر ومحاولة العيش رغماً عن الظروف الصعبة، أو عن التمرد والتغيير، أو عن معاناة الإنسان الموهوب/العبقري في تحقيق هدفٌ ما، أو عن حياة الشخص المنطوي والمنعزل مجتمعيًا، لكنه في الحقيقة يظل نصٌ شديد التميز وأكثر ما يكون عن (الإنفصام): يجمع كل تلك المواضيع الهامة ويضعها في الواجهة ليصنع فيلماً يتحدث عن أحد الأمراض النفسية في الأساس، ويصب كافة أبعاده الدرامية لشرح وبسط كينونة هذا المرض السايكولوجي على شخصيتنا الرئيسية.

الإنفصام والصراع النفسي اللامنتهي

بُعد (إنفصام الشخصية) هو محور الحكاية الرئيسي لدى الكثيرين وإن اختلف البعض في تقدير قوة هذا البُعد على دراما الفيلم ككل، القصة وكأنها تطوّع جميع أبعادها الدرامية -وأولهما جانب عبقرية الشخصية وجانب الحب/الزواج في حياتها- لتخدم هذا الشئ الواحد في باطن العمل، هذا لايمنع بتاتًا رؤية الفيلم بعيدًا عن هذا الجانب المكثف رغم إقراري بأهميته وبأخذه معظم مساحة الدراما في الفيلم.. أحد الأمور الطريفة التي قرأتها يومًا هي أن يالسخرية القدر أن يوجه أحد الأطباء النصيحة لمريضه كي يُشاهد هذا الفيلم للتعرف على خواص مرض الإنفصام (الذي هو هنا حالة متقدمة منه تصاحبها هلوسات سمعية/بصرية)، فهذا فيلم روائي في النهاية ليس تسجيليًا كما يتبادر للأذهان أنه من المفترض أن يكون !!، هنا تكمن قوة الوسيط السينمائي في تعدّيه لمجرد كونه يحمل قصصًا ممتعةً جوفاء وفي دخوله للحياة العملية/التعليمية لكافة الدراسات والأعمال.

أيضًا هذا واحد من أهم أفلام تيمة ما أدعوها (الواقع ضد الخيال/ثنائية الحقيقيّ والإفتراضيّ): الأفلام التي تصارع شخصياتها للوقوف بين العالمين وتجد في غالبيتها الجملة المشهورة (هذا ليس حقيقيًا)، نجدها في أفلام مثل (Fight Club) و(Donnie Darko) و(The Truman Sho) وبالتأكيد (Inception)، في هذا الفيلم الأمر مختلفٌ تمامًا لأنه ليس (خياليًا) كما في كل تلك الأفلام، ليس من قبيل الفانتازيا والخيال العلمي، إنه شئٌ حقيقيٌ وواقعيٌ بالكامل، ويضرب بواقعيته في صميم كابوسية القصة وكابوسية الإحتمالات الناشئة عنها في عقلية المتفرج، ربما يشترك في كابوسيته مع تيمة الهلاوس الذهنية والصراع النفسي للشخصيات في تحفة دارين أرنوفسكي (Requiem for a Dream)، والتي كانت نتيجةً للمخدرات لا المرض.. مازلت أتذكر بوضوح مشهد المنعطف الدرامي في قصة فيلمنا ومقولة الطبيب (كل ما حصل لك هذا هو من وحي خيالك) التي وقعت في نفس ناش وقعة الصاعقة المُدوّية وضربته من حيث لم يحتسب، كل هذا يجعل من الفيلم فيلمٌ ثقيلٌ درامياً و(سايكولوجي) بدرجةٍ أولى رغم تميز معظم أفلام هذا الصنف عندما تنشأ عن محض الأوهام والخيالات الجامحة.

العبقرية والوصولية وما بينهما

ربما أول فيلمٌ يأتي على الذهن عندما نحكي عن شخصيات السينما العبقرية فيلم دايفيد فينشر (The Social Network) وشخصية (مارك زوكربيرج) بها، العبقرية في فيلمنا هذا خدمت طبيعة الحكاية بسبب كونها وسلية (لدفع الجانب السايكولوجي من القصة) لا غاية (كقصة تناول الحياة الناجحة لعالمٌ بالرياضيات)، هذا بالرغم من القوة الكبيرة من جزئية (الشخصية الموهوبة العبقرية) في الفيلم، لكن النص لا يهتم بحياة ناش لذاتها قدر إهتمامه بها لتغذية العديد من الأبعاد الأخرى وإيجاد المُشتركات بين المعالجة المكتوبة وبين حياته المُعاشة ليوضح بها رؤية خاصة وجديدة، هو لا يريد رحلة توثيقية لحياة رياضيٌ بارع كما الحال مثلًا في (The Imitation Game)، وربما هذا ما كان سبب الإنتقادات التي وجهت للفيلم من قبل عائلة ناش نفسها عن أن الفيلم ليس حقيقيًا ولا يقترب حتى من سرد حياة الرجل الواقعية، بغض النظر عن مدى كونه مريضاً بالشيزوفرينيا حقاً.

النص في هذه المنطقة وقف في المنتصف بين كونه يريد (توثيق) حياة صاحبه وأن يسرد (قصة نجاح/صعود)، وبين كونه يريد تأكيد (وصول) البطل لمراده كنتيجةً لعبقريته وأن يسرد (قصة معاناة) توازي عملية معاناته الذاتية مع مرضه، (الوصولية) هو شئٌ موجودٌ بقوة في قاموس بطلنا (كحال شخصية مارك زوكربيرج هي الأخرى)، هو يعلم أنه عبقري، الجميع ينادونه بالعبقري حتى لا بإسمه، تجده يتملّكه الحقد والغضب عندما يخسر أمام صديقه لعبة الطاولة، يستمر في مخاطبه نفسه (هذا لا يمكن أن يحدث.. أنا لا أستطيع أن أخسر)، وعندما يبحث عنه رفيقه بالغرفة في المشهد التالي نجده يجلس على طاولة المكتبة حافياً يخطط في معادلاته ونظرياته الرياضية، لم يخرج منها ليومان ولم يضع شيئاً في معدته منذ ذلك الحين.. يسأله صديقه لأكل البيتزا سويًا قائلًا (أنت تأكل.. صحيح؟) في مداعبة ساخرة عن إحتمالية كونه ليس بشريًا، وفي مشهد لاحق يقول له صديقٌ آخر (أنت تعمل طوال وقتك.. هناك أشياءٌ أخرى في الحياة)، شخصيتنا شغوفة جدًا بما تفعله ونزعة (الوصولية) عندها في ذروتها، في الواقع ولع ناش وإنشغاله الدائم بالأرقام كان سبب استمرارية كفاحه وتغلبه -فيما بعد- على مصائبه النفسية الكبيرة، تأمل المشهد الختامي للفيلم مثلاً عندما يعود هاورد ليؤكد قيمة العمل (التحفيزية) ونهاية قصة الرجل الذي أفنى حياته لما يؤمن وما هو شغوفٌ به عبر تسلّمه لجائزة النوبل وسط تصفيقٍ حارٍ من الجميع ومن زوجته، هذا أحد العوامل المهمة جداً في الفيلم الذي بخلاف كونه يسرد (قصة عن مرض الشيزوفرينيا) فإنه يسرد (قصة عن مرض الشيزوفرينيا لرجلٌ عبقري).

مُفارقة الحب وسط أجواءٌ غير إعتيادية

للحب في هذا الفيلم قيمة وجودية ربما من مفارقات الحياة النادرة جدًا، تأكيد قيمة الحب في قصةٍ عن شخصٌ دائمًا ما يجيب على سؤال سبب إنطوائيته وعُزلته المجتمعية الشديدة: (لأن لا أحد يحبني) هو شئٌ بالتأكيد لا تراه يومياً في الأفلام، الحب هنا له معنىً آخر من الأهمية، له شكل آخر تماماً عن قصص الحب الإعتيادية، نحن لا نعرف هل إليسيا (جينيفر كونيلي) تجوزت ناش لأنها وقعت في غرامه أم عطفًا عليه أم لمجرد كونه مختلفٌ عن الآخرين، في الواقع نحن لا نهتم كثيرًا بالبدايات بل بتفاصيل ما حصل بينهم فيما بعد.. كيف ساعدته، كيف كانت عونه الأول والوحيد في شدته، كيف اهتمت به بعدًا بإقناعه بضرورة إستمرار العلاج وإحضارها لدوائه يوميًا، وكيف احتوته في حضنها عندما كان مضطربًا مشوشًا، نحن أمام قصةً شديدة الإنسانية عمادها حالة حب تجمع زوجين، يعود ليذكرنا بأفلامٌ قوية عن (الحب الذي تغلب على المصاعب/المصائب) على غرار (The Noteboo) و(The Fault in Our Star).

ربما الآن أتفهم رؤية إسم (رون هاورد) يتصدر الإعلان الدعائي لبرنامج ناشونال جيوغرافيك التسجيلي (العبقري) عن قصة حياة (ألبرت آينشتاين) بعد إخراجه أحد أهم كلاسيكيات هذه التيمة، هذا عملٌ يتحدث عن كينونة (العقل البشري) ويغوص عميقاً في الـ(طاقة الذهنية) وما ينتج عنها من إضطرابات في الحالة الشعورية/المزاجية للفرد بقدر ما يتحدث عن القصة التي تحويهما، فيه ما هو (تحفيزي) بقدر ما هو (مُلهم) بقدر ما هو (ممتع) بقدر ما هو (صادم).. وبالتأكيد أداءٌ أستاذيّ من الرائع (راسل كرو).

وصلات



تعليقات