Mother!.. قراءتان لما وراء علامة التعجب (عرض تحليلي)

  • نقد
  • 04:20 مساءً - 28 اكتوبر 2017
  • 3 صور



Mother!

تقول اﻷم تريزا: "الرب لم يطلب منا النجاح، وإنما المحاولة"، وعلى هذا المنوال يصير الوصول إلى إجابات نهائية لما لا يُدرك بالحس أو الوعي هدف نسير إليه في طريقنا محاولين الاقتراب بقدر المستطاع، لكننا أيضًا لا نصل إلى المنتهى أبدًا، ومن هنا ينبع جزء كبير من المتعة في المسعى، وليس في بلوغ الهدف نفسه بحيث يساعدنا في بناء تصوراتنا الخاصة وتأويلاتنا الشخصية لغير المُدرَك وغير المحسوس البعيد عن أيادينا.

يقرر الكاتب والمخرج اﻷمريكي دارين أورنوفسكي في "Mother!" العودة من جديد للرعب النفسي الذي يعتبر من أصنافه السينمائية المفضلة، لكنه يأخذه هذه المرة لمستوى أعلى وأكثر تركيبًا من أعماله السابقة، حاملًا في رأسه نص مفتوح ينجح في الصمود أمام مختلف التأويلات والتفسيرات، بل وينجح كذلك في الارتقاء إليها دون أن تبدو بعيدة عما كان يدور في رأسه خلال اﻷيام الخمسة التي كتب فيها النص وما تلاها من عملية تصوير للفيلم.

في مشاهد عديدة من الفيلم، نجده يتقاطع بشدة مع فيلم آخر ينتمي للرعب النفسي وهو "Rosemary's Baby" للمخرج البولندي رومان بولانسكي، وهو ما لا ينكره "أورنوفسكي" أصلًا، بل يؤكد عليه أكثر فأكثر لدرجة صنع ملصق دعائي يحاكي الملصق الدعائي الشهير للفيلم اﻵخر، وصولًا إلى عشرات اﻹشارات الكامنة والمتناثرة في جنبات الفيلم، والتي سنوردها ونشير إليها خلال هذا التحليل بالمقارنة مع "Rosemary's Baby".

ونظرًا لكثافة سياقات الفيلم التي تحتمل أكثر من تأويل، وجدت نفسي بعد نهاية الفيلم أمام قراءتان قد يبدوان من النظرة اﻷولى لا صلة لهما ببعضهما البعض، لكن يجمعهما في الوقت ذاته صلات اتصال وانفصال، وقررت أن أضعهما جنبًا إلى جنب، بحيث تنطلق القراءة اﻷولى من لاوعي البطلة، بينما تأتي الثانية من وعي البطل.

القراءة اﻷولى: قُدَاس الحُلم

في فيلم "Rosemary's Baby"، وبعد انقضاء ثلث مدة عرضه على الشاشة، يحل واحد من أهم المشاهد المحورية في الفيلم، حيث يحمل جاي وودهاوس (جون كاسافيتس) زوجته روزماري (ميا فارو) إلى فراشهما لكي تنام، ومن ثم ينطلق تتابع طويل نسبيًا لمرحلة ما بعد دخول روزماري في السبات، حيث يبدأ ما يمكن بشكل ما اعتباره "حلم طويل"، أو يمكن تأويله بأنه "سلسلة من الطقوس الشيطانية التي تمارس على البطلة وهي غافلة لا تدري"، اﻷهم من ذلك أن رومان بولانسكي يُميّع عن قصد أي فاصل حاسم بين كون هذا التتابع الطويل "حلمًا" أو "حقيقة" دون انتصار أو حسم ﻷحدهما على حساب اﻵخر، وهو ما يؤدي -بتتبع أي خط فيهما- إلى مسار جديد يتقاطع مع المسار اﻵخر.

بالعودة إلى فيلم "Mother!" يمكننا تخيل أن كل ما شاهدناه هو عبارة عن حلم طويل يحمل في قلبه كل هواجس البطلة (جنيفر لورانس) ومترجمة أمامنا بلغة اللاوعي الذي يحمل معادلة الخاص لكل ما يعايشه اﻹنسان خلال وقت الصحو.

بالنظر إلى بنية الفيلم، فهو موضوع بأكمله بين قوسين، بدايته مماثلة لنهايته بتطابق تام، وكلا القوسين الرئيسيين عبارة عن فعل استيقاظ من النوم بعد احتراق المنزل وعودته لصورته اﻷولى من جديد، مؤكدًا على محورية ما بينهما ووضعه داخل برواز واضح، وإيحاء مخادع بأن ما نشهده هو متابعة للبطلة التي لا نعرف اسمها -لا هي ولا سائر شخوص الفيلم- في حالة اليقظة.

إن سلب اﻷسماء من كل الشخصيات في منظور الحلم يعمل بالضرورة على تجريدهم من الهوية والفردانية التي يتمتع بها كل منهم، فتصير كافة الشخصيات لو قرأناها في هذا السياق هي جماع لكل من نختلط بهم اجتماعيًا، خالطة صفات من هنا على خصال من هناك بفعل آليات اللاوعي لتخرج شخصيات جديدة بالكلية ومنسلخة عن الشخصيات الحقيقية مهما كانت درجة حملها لهيئاتها وقسماتها.

ما يعزز أكثر احتمالية الحلم هو مركزيته حول شخصية البطلة طوال الوقت، الفيلم يلتصق ببطلة ولا يفارقها بتاتًا مهما جالت داخل جنبات هذا البيت الكبير الذي انتقلت إليه للتو -دون أن نملك معلومات مفصلة حول ملابسات هذا الانتقال- فإذا لم نرَ ما تراه بعينها فإننا نصاحبها صعودًا وهبوطًا ودخولًا وخروجًا داخل هذا المسرح المغلق للأحداث.

ومن أجل التأكيد على مركزية وضع البطلة/اﻷم، يكثف دارين أورنوفسكي طوال الفيلم من استخدام لقطات التتبع Tracking Shots أو لقطات وجهة النظر POV Shots مع جينفر لورانس التي تسيطر على فضاء الصورة مهما كان موضعها، كما لا يشتت المشاهد بعيدًا عنها إلا لكي نرى ما تراه، وهو ما يتأتى بتجفيف الصورة على الشاشة ملامسة حد الخشونة مؤكدًا على الرؤية الحُلمية، وتجفيف شريط الصوت من أية موسيقى أو أية مؤثرات سماعية لا حاجة لها لهذه الحالة.

كما يحجم ويحدد الفيلم عامل المكان، لا نرى كيف يبدو العالم خارج المنزل ولا نعرف أين يقع أصلًا، نحن لا نراه سوى في بضعة لقطات تُعد على أصابع اليد أو من داخل المنزل نفسه ومن نفس منظور ووجهة نظر البطلة نفسها، البطلة مقيّدة تمامًا داخل مسرح اﻷحداث وكأن عقلها اللاواعي هو الذي رسم لها حدود الحلم في شكل ملموس وهو المنزل الذي تحاول الحفاظ عليه مما يهدده لكن دون فائدة.

البطلة هنا مسلوبة اﻹرادة تمامًا أمام كل ما يجرى، لسنا نحن فقط -كمشاهدين- من نراقب ونشاهد، بل هي أيضًا تراقب وتشاهد دون قدرة على التغيير أو إحداث التأثير منذ اللحظة الأولى التي أدخل فيها الزوج خافيير بارديم) وحتى الفوضى العارمة التي تصيب المنزل في خواتيم الفيلم، جامعًا في معادل سريالي للواقع كل المصائب البشرية في قالب واحد ليتحول المنزل إلى ساحة مخيفة تموج بكل مصائب البشرية (تخريب متعمد، سجن، قتل ممنهج، مظاهرات وفوضى، حرب، أضحية بشرية...إلخ)، فالنائم لا يستطيع أن يتحكم فيما يراه ولا يملك تجاهه حيلة سوى الرؤية حتى تحين لحظة الاستفاقة، وكأن كل ما تشاهده طوال اليوم يتكثف في دفقة واحدة.

كما يشير الفيلم أكثر من مرة على نحو صريح للقلب الذي تسمع البطلة دقاته عبر الجدران، وكأنه يعمل كمؤشر عضوي حيوي واضح صانعًا برزخًا بين حالتي الصحو والنوم حتى تحين إما لحظة الاستفاقة من هذا الكابوس أو لحظة الموت والراحة، وهو ما نراه حين تتخلى البطلة عن قلبها طواعية لينتهي به الأمر بين يدي الزوج، مخرجًا منه القالب الكريستالي ليضعه في مكانه، وتعود اﻷمور في نصابها، وتستفيق سيدة آخرى من النوم ربما تكون هى البطلة الحقيقية للقصة ومن رأيناها في الحلم هى محض انعكاس لها، أو النسخة الواعية من الشخصية اللاواعية في هذا الحلم الطويل.

القراءة الثانية: البجعة السوداء

ما القاسم المشترك الذي يجمع بين كل من جاي وودهاوس (جون كاسافيتس) الممثل المثابر الذي يحاول إيجاد فرصة سانحة للنجومية في Rosemary's Baby، وبين نينا سايرز (ناتالي بورتمان) راقصة الباليه التي تحاول الاستفادة من فرصتها الذهبية كبطلة رئيسية لباليه "بحيرة البجع" في Black Swan، وبين الشاعر (خافيير بارديم) الذي يعاني من انغلاق ذهني ويحاول العمل على قصيدة جديدة تضمن له مكانة أسمى في أحداث الفيلم محل التناول؟ لا أقصد بالطبع أن يكون القاسم هو عمل ثلاثتهم في مجال الفنون واﻵداب فحسب.

اﻹجابة: الطموح الجامح والبحث عن الكمال والتوق إلى التقدير، كل من الثلاثة الذين سبق اﻹشارة إليهم يمتلكون أحلامًا كبيرة في مقابل عقبات كثيرة وحظوظ قليلة، لكن في مقابل سلسلة الضغوط النفسية التي تكبل نينا إثر وجود منافسة لها على الدور، يتبع كل من جاي والشاعر وسائل جديدة وراديكالية وغير تقليدية لبلوغ مآربهما، واﻷهم متجاوزة لمستوى الواقع المعاش وبالطبع متجاوزة للعرف اﻷخلاقي، تمامًا مثلما فعل فاوست حينما أبرم صفقته مع الشيطان.

وبينما نكتشف في خواتيم فيلم "Rosemary's Baby" أن (جاي) قد استغل زوجته اسوأ استغلال بأن يدفعها لتصير حبلى بابن الشيطان في مقابل الشهرة التي يبتغيها، لا نعرف أي شيء عن خلفية الشاعر منذ بداية الفيلم، لا نعلم من ماضيه سوى أنه شاعر متحقق على أرض الواقع بالفعل لكنه يعاني من "قفلة الكاتب Writer's Block" في الوقت الحالي ويبحث عن قصيدته الجديدة، لا نعلم متى انتقل للمنزل مع زوجته، لا نعلم سببًا لطبيته المفرطة في التعامل مع الغرباء المتوافدين على منزله بلا ضابط ولا رابط سوى أنه يبحث عن إلهام جديد لعمله الشعري الجديد.

ومع قلة المعلومات المتوافرة لدينا عن الشاعر، نضطر في هذه الحالة إلى صياغة تصورنا الخاص عن دورة حياته هو اﻵخر:هذا الشاعر ينشد ما هو أكثر من مجرد حفنة من القراء الذين سيشترون نسخ موقعة في حفل توقيع ومناقشة، إنه ينشد الخلود نفسه، أن يصير خارج قيود الزمان والمكان، وهو ما لن يتحقق بالطرق التقليدية التي ينتهجها سائر المبدعين، لذا كان لا بد من البحث عمن يحقق له هذا الخلود، شخص عابر للحدود بين عالمي الغيب والشهادة -بحسب التعبير الديني اﻹسلامي- أو طائفة كاملة تحقق له هذا المراد وتملك القدرة على اختراق الحُجب مهما كان الثمن المطلوب حتى لو تطلب اﻷمر تقديم قرابين بشرية مع كل مرة يولد فيها عمل شعري جديد.

وﻷن مسعى الخلود ليس بالمسعى المجاني بالمرة، فإن له مقابل باهظ جدًا، ولا تقتصر المسألة على مجرد التضحية بأم جديدة ومولود جديد يُفتدى به على مذبح الطائفة ليأكلوه مع انتهاء كل قصيدة كشهريار الذي يأمر مسرور السياف في كل صباح يوم جديد بقتل زوجة الليلة الواحدة واﻹتيان بزوجة جديدة، تمسي حياة الشاعر في المقابل حلقة مفرغة ولعنة أبدية ومأساة سيزيفية (نسبة إلى سيزيف الذي حُكم عليه بعقوبة أبدية تتمثل في دحرجة ضخمة من أسفل الجبل ﻷعلاه وتكرار العملية كل مرة مع نزول الصخرة جزاء له على خداع ثاناتوس إله الموت).

لا يقتصر الخلود هنا على الجانب المعنوي المتمثّل في كلمات الشاعر، بل يقابله خلود مادي يُترجم هنا في مقاومته لفعل الموت حرفيًا، وإلا فلماذا كان هو الناجي الوحيد من الحريق الهائل الذي أشعلته اﻷم/البطلة بعد أن أكل المريدين طفلها الوليد وصار قربانًا بشريًا لتلك الطائفة بالرغم من أن الحريق قد طال جميع من في المنزل؟

وكبطلة "Black Swan" التي حققت مرادها بالكمال والتفوق الفني من رحم المعاناة النفسية في لحظة الفناء عن العالم بالترافق مع شروق الشمس ورقصة البجعات البتولات اﻷخيرة على ضفة البحيرة، يحقق الشاعر مراده بالخلود اﻷبدي والتفوق اﻷدبي من قلب دوامة أبدية، حبيسًا داخل بيت يحترق فيه بلا نهاية، باحثًا عن ضحايا جدد ليمسوا وقودًا وحطبًا للنيران الجائعة.


وصلات



تعليقات