"الفنان الكارثي".. في مديح الفشل الممتع

  • نقد
  • 09:28 صباحًا - 17 يناير 2018
  • 5 صور



على موقع فيس بوك انتشرت عشرات من النكات المصورة تنشرها صفحة بعنوان "يوميات باسم أبو السعود"، جميعها يحمل سخرية من مسلسل الحقيقة والسراب الذي كان باسم أبو السعود أحد شخصياته، ليقوم بنشر وتداول هذه النكات والتعليق عليها مئات الآلاف الذين بالتأكيد يفوق عددهم من شاهدوا المسلسل متواضع المستوى وقت عرضه.

الشيء نفسه حدث مع مسلسل أكثر تواضعاً هو طائر الحب الذي تحول بطلاه عزمي وأشجان (كمال أبو ريّة وفيفي عبده) إلى أيقونات يعرفها الملايين مثالاً حياً لأعمال نادرة تتحول فيها الرداءة إلى مصدر جذب بل وشعبية طاغية، وليس قبضة الهلالي الذي صار بسبب مستوى التمثيل المزري ومشاهد القتال المضحكة فيه عملاً مفضلاً لدى طائفة من المحبين، كَلْت "cult" حسب الوصف الذي يصعب إيجاد ترجمة دقيقة الدلالة له في اللغة العربية.

أما العمل الذي يكاد يكون أشهر وأنجح "كلت" في القرن الحادي والعشرين فهو الفيلم الأمريكي (الغرفة The Room). فيلم كتبه وأنتجه وأخرجه ولعب بطولته رجل غريب الأطوار يدعى طومي ويزاو، أنفق ستة ملايين دولار لا يعرف أحد حتى يومنا هذا مصدرها الحقيقي لصناعة عمل وُصِف بأنه أسوأ فيلم في التاريخ. بل أن أستاذ الدراسات السينمائية روس مورين قد وصفه بأنه "المواطن كين الأفلام السيئة".

الحكاية غير المفهومة أو المعقولة، التمثيل الرديء، التنفيذ الكارثي، كلها أمور جعلت من "الغرفة" عملاً أيقونياً شوهد منذ عرضه الأول عام 2003 ملايين المرات، وصار له أتباع ومحبين في كل مكان حول العالم يحفظون حواره الركيك عن ظهر قلب. بل إنه عندما شاهدنا فيلم الفنان الكارثي The Disaster Artist الذي يروي حكاية تصوير الفيلم في إحدى أمسيات مهرجان دبي السينمائي الدولي الرابع عشر، كانت القاعة تضم عدة أشخاص قرروا حضور العرض وهم يرتدون شعراً مستعاراً يشبه تصفيفة شعر طومي ويزاو في "الغرفة"، إعلاناً عن حبهم للفيلم الذي لا يختلف شخصان في العالم على مستواه.

هذه الظاهرة تُفسر قرار جيمس فرانكو، وهو أحد أنشط فناني العالم على المستوى الكمي وأكثرهم جموحاً على مستوى المغامرة في شكل الأعمال الكوميدية التي يقدمها، بأن يُنتج ويخرج ويلعب بطولة فيلم يروي كواليس تصوير "الغرفة"، معتمداً على كتاب بنفس العنوان وضعه جريج سيستيرو، صديق تومي ويزاو الذي لعب دور البطولة الثاني في "الغرفة"، روى فيه وقائع التصوير الذي بلغت قرارات ويزاو خلاله حداً غير مسبوق في الشطط، كأن يُقرر مثلاً بناء ديكور لتصوير مشاهد يمكن تصويرها بسهولة في موقع موجود بالفعل واقعياً، فقط لأن الأفلام في هوليوود يتم تصويرها في ديكورات وفيلمه ليس أقل من هذه الأفلام!

غرابة أطوار ويزاو والغموض المحيط بشخصيته، التي لا يعلم أحد إلى يومنا هذا ـ حتى من تقربوا منه وعملوا معه ـ الحقائق الرئيسية عنها؛ فلا يعلم أحد عمره الحقيقي أو محل ميلاده أو خلفياته الدراسية والمهنية أو حتى مصدر الأموال الهائلة التي أنفقها على الفيلم دون أن يكشف لمن حوله طبيعه عمله ودخله، كلها أمور وجدها جيمس فرانكو مفاتيح مثالية لتقديم عمل كوميدي بكل ما تحمل الكلمة من معان. فإذا كانت الكوميديا تنبع عادة من الغرابة والمفاجئة، فلا شيء في شخصية طومي ويزاو أو تصرفاته أو العمل الذي أنجزه ليست غريبة أو مفاجئة.

لاحظ هنا أن الكوميديا تأتي من ثلاثة عناصر متراكبة، أولها غرابة البطل الجروتيسكية grotesque في مظهره وطريقة حديثه وتباهيه الدائم بالمال، والتي تفرز تلقائياً مواقفاً بالغة الطرافة حتى لمن لا يعرف شيئاً عن الفيلم الأصلي. ثم العنصر الثاني وهو فيلم "الغرفة" نفسه الذي يمثل وجوده في الواقع مصدراً دائماً للمفارقة؛ لأن المشاهد يعلم أن ما يراه أمامه من قرارات كارثية ومشاهد مذهلة في تردّيها قد أسفر بالفعل عن فيلم تم عرضه في القاعات. متعة تزيد بالطبع لمن شاهدوا فيلم ويزاو من قبل، والذين تصاعدت ضحكاتهم الصارخة خلال العرض بصورة غير مألوفة على الإطلاق في فيلم يشارك في مهرجانات ويحصد جوائز.

أما العنصر الثالث فهو أن "الفنان الكارثي" هو بخلاف ما سبق فيلم عن السينما film about film، ينتمي للأفلام التي تدور أحداثها في كواليس صناعة السينما وتكشف خفاياها، وهو نوع ممتع ومبهج دائماً لمحبي السينما، لاسيما عندما تكون الكواليس لعمل مثل "الغرفة". النوع يحمل أيضاً داخله تحية وتقدير لفن السينما بشكل عام، حتى لو كانت على طريقة طومي ويزاو، وكان أصحاب التحية هم جيمس فرانكو وفريقه، مدشني الموجة الكوميدية الأمريكية الجديدة التي ترفع السخرية من كافة الأفكار والمسلمات شعاراً لها.

قبل أيام فاز فرانكو على جائزة الجولدن جلوب لأحسن ممثل في فيلم كوميدي أو غنائي لعام 2017، تقدير لن يتكرر في الأوسكار بطبيعة الحال في ظل عدم الفصل بين الأعمال الكوميدية والدرامية، لاسيما مع وجود منافسين أقوياء على رأسهم جاري أولدمان بتجسيده لشخصية رئيس الوزراء البريطاني وينستون تشرتشل في Darkest Hour. لكن من الوارد جداً أن يظهر اسم فرانكو بين المرشحين للجائزة، في القائمة التي نادراً ما تضم ممثلاً من فيلم كوميدي خاصة نوعية الكوميديا التي يقدمها فرانكو. لكن ما نجح فيه الممثل الشاب بجمعه بيه إتقان التشخيص وخفة الظل الفائقة إنجاز يستحق التنويه، ويساهم ـ مع مستوى الفيلم بشكل عام ـ في إعادة الاعتبار لهذه النوعية من الأفلام التي تمتع الجمهور وتتجاهلها الجوائز.

نُشر المقال في جريدة "القاهرة" عدد الثلاثاء 16 يناير 2018


وصلات



تعليقات