بلاش تبوسني: هل الاختلاف بالضرورة شيء جيد؟

  • نقد
  • 08:31 صباحًا - 22 مارس 2018
  • 8 صور



قال أحدهم ذات يومٍ : "مُشاهد السينما قد لا يُهمّهُ قصص الأفلام التي يُشاهدها بقدر ما يُهمّه كيفية حكي تلك الأفلام سينمائياً، ففي النهاية القصة الواحدة يمكن أن تُحكَى بمليون طريقة مختلفة، وهي حقيقة لا يمكن أن ننكرها.. وربما هذه النقطة تحديداً هي ما تتميّز بها السينما عن أي وسيط قصصي آخر".

من المُلاحَظ مؤخراً أن معظم الأفلام الجديدة المختلفة عن السائد مما قد تعوّدت عليه السينما المِصرية في فتراتها الأخيرة، أنها تُقابَل بإحتفاءٍ ومَدحٍ مُبالَغ من قبل النقاد، وممن يستخدمون أقلامهم للتعبير عن آرائهم في الأفلام.. حَصُلَ هذا مع فيلمي العام الماضي فوتوكوبي للمخرج تامر عشري، وقبله أخضر يابس للمخرج محمد حماد.. والآن جاء الدور على فيلماً جديداً يدعى بلاش تبوسني، في الفيلمين الأوّلين لا أجد شاكلة مع مدحهم لأنهم كانوا فعلاً أفلاماً جيدة، وإن كانت فكرة (المُبالَغة) بحد ذاتها على أيَّ من يعبر عن رأيه في الفيلم - سواءً بالسلب أو بالإيجاب - غير مُحبَّذة في عملية نقد الأعمال الفنية؛ حيث لابُدّ بالنهاية أن تكون مدعومة بُحجّة وبرهانٌ قوي، هذا هو المهم هُنا بالنسبة لأحدٍ ربما لم يُشاهد الفيلم بعد، فحتى أكثر الأفلام المُتَّفَق أنها تحف سينمائية قد يرى البعض سلبيات بها، لا توجد أفلام (مثالية) للجميع.. إذن، هل (فيلم ممدوح) تعني دائماً (فيلم جيد) ؟، أم ربما يُمدَح فيلمٌ ما لسبب آخر غير كونه فيلم جيد ؟!

فيلم المخرج أحمد عامر الجديد (بلاش تبوسني) هو فيلماً مختلفاً جداً، وهي حقيقة لا ينكرها أحد، بل ربّما يستريح البعض عند ربطه بمصطلح (السينما التجريبية) حتى، لكن ليس هذا هو المهم.. إنَّما المهم حقاً هو هل كان هذا الإختلاف شيء جيد ؟.. وهل أفاد هذا التجديد موضوع الفيلم ؟.. هذا ما سوف أحاول الإجابة عنه من خلال كلماتي القليلة القادمة.

القصة تتحدث عن قضية هامة هي غياب القُبلات في السينما المصرية الحديثة، رغم إنتشارها وتعوّدنا عليها قديماً، لكن وبعيداً عن الموضوع ذاته، فإن مشكلتي مع الفيلم هي مشكلة سردية، فقد جاء الشكل السردي منقسماً بين الروائي الذي نعرفه، وبين صنف يعرف بإسم (Mockumentary)؛ وهو أحد الأنواع المُهجَّنة من السينما التسجيلية التي تستخدم شكلاً تسجيلياً في عرض قضاياها الخيالية بالأساس، ويغلب على أسلوبِها طابع السُخر أو الكوميديا، إذن - إصطلاحياً- نحن نتحدث عن فيلماً يقف بين الروائي وبين التسجيلي الساخر، وهذا هو المنظور التي رأى بها كاتب هذه الكلمات العمل: رؤية تصنيفية بالأصل.

إجابتي هي (لا)، لم يكن الإختلاف في هذه الحالة شيئاً جيداً، بل كانت الطريقة التي اختارها المخرج غير مُناسبة بالمرّة.. وإليكم أسبابي :

(الرؤية الإخراجية الغير واضحة)

أتعلمون هذا الشعور أن ما ترونه في الفيلم هو شيء، وأن ما يريده المخرج هو شيء آخر ؟.. حسناً، هذا ما شعرت به إن كان له أية معنىً؛ إنقسامٌ ملحوظ بين الجزء الذي يريد أن يُخبرنا أنه تسجيلي (الذي هو تسجيلي بالفعل في عالم الفيلم) وبين الجزء الروائي، وكأنهما فيلمان متناقضان ومنفصلان، لم أجد تجانساً بين الشكلين الروائيين، ولم أجد هارموني واحدة، هناك مجهود كبير ملحوظ نعم، لكن الأمر أشبه بأن المخرج يُصارع جاهداً ليجعل فيلمه (شيء ما) هو ليس عليها على الإطلاق، هل الشكل السردي للفيلم -أيُّ فيلم- هو مسئولية الكاتب أم المخرج؟.. شخصياً لا أعلم، لكن هذا لا يهم كثيراً الآن لأن الإثنان ورائهما ذات الشخص في حالتنا هذه.. ربما يتوجه بسؤالي الآن أحداً ممن أُعجَبوا بالفيلم : (بأيُّ شكلٍ كنت تريد رؤية الموضوع إذن؟)، سأجيبه بذات الإجابة.. حقاً لا أعلم، لم أكن أريد على الفيلم أن يظهر بشكلاً معيّناً بالطبع، لابد في النهاية من إحترام الرؤية الفنية لمخرج العمل، أنا فقط أقول أن هذا الشكل المُتَّبع.. نعم هذا الشكل، لم يكن موفقاً.

(عفواً، ما هي القصة مجدداً ؟!)

متابعة خط سير قصة تتكون من كلاً من لقاءات حوارية، اسكتشات كوميدية، سرد تسجيليّ الطابع، سرد روائي يتغير كل حينٍ وآخر، هو بالتأكيد أمر مرهق إذ لم يكن هناك هارموني قوي بينهم، بل بالعكس، الأمر لا يتطلب تناغم عاديٍ بل تناغم من نوع خاص أيضاً، وهذا ما كان مفتقداً في (بلاش تبوسني)؛ تشتت فكري وعدم قدرة مني على ربط الأحداث المعروضة أمامي ببعضِها.. لذا فمن المنطقي أن أسرح قليلاً في نصف الفيلم الثاني، سائلاً نفسي عن ماهية الفكرة الأساسية من كل هذا !!

أشعر كأن الفيلم قد تغيّرت رؤيته القصصية - أو السرديّة ربما - من بداية المشروع لنهايته من شدة هذا التشتت الذي أصابني، وفكرة وجود المخرج الراحل "محمد خان" في لقطاتٌ حوارية مع صديقه المخرج "خيري بشارة" يُزيد من إحتمالية هذه الفكرة عندي، مجرد نظرية.

(استخدام مُفرط للكوميديا)

"مُفرط" هنا تأتي بمعنى "بلا داعٍ".. كوميديا الفيلم كانت جيدة، لكنها كانت أيضاً مُبالغة جداً، لا أعتقد أن تقديم قصةً كتلك كانت تتطلب هذا الكمّ من الضحك، أراها قصةً سوداوية وتستدعي الحسرة على الحال الذي أصبحنا عليه مُقارنةً بسينما زمان.. المشكلة أنه -ومع التداخل الغير متجانس بين شكليّ الفيلم الروائيين- أصبح من الصعب عليّ تحديد لماذا كانت كوميديا العمل غير موفقة، هذا لأن الكوميديا لم تقتصر على الجزء الذي ظهر كتسجيلي فقط (الموكيومينتاري)، بل كانت جزًء أصيلاً من الجزء الروائي الذي يفتتح به الفيلم، كوميدياتان في الشكلان الروائيّان ؟.. لا أعتقد أنها فكرة جيدة جداً.

بالنسبة لمشهد الكافيه فهو يستحق الإشادة بسبب أنه استُخدِمَ به حركةً ذكيةً للغاية، وصلت بأن جعلت صالة السينما في هيستيرا مُطلقة تضحك من أعماق جوفها.

(مشاهد ليس لها علاقة بأيُّ شيء!)

في البداية توقعت أن يكون الفيلم بمثابة نقد مجتمعي وثقافي للحاضر من خلال موضوع القُبلات هذا، لكن يبدو أنني كنت أُفكِّر في سيناريو فيلم آخر!، هذا لأن ما فهمته من الفيلم بعد إنتهاء مُشاهدتي له أن لم يكن معنيّاً بتاتاً بوضع منظور أوسع للقضية، فيلمنا هذا هو مجرد (فيلم يتحدث عن شخص يواجه مشكلة في فيلمه الروائي الأول الذي يصنعه بسبب عدم إستطاعة الممثلة أن تنفذ مشهداً تُقبِّل فيه رجلاً) لا أكثر ولا أقل !

لكن هذا ليس كل شيء، ستجد العديد من المشاهد التي ليس لها علاقة بأي شئٍ يحصُل وتحاول إقناع ذاتك أنه وحدةً من الفيلم، مثل مشهد شخصية المونتير الذي لم أفهم السبب وراء جهد المخرج الكبير في تحويل فيلمه إلى أشبه بمحاضرة عن صناعة الأفلام يشرح فيها هذا الشخص كيفية القيام بعمله كمونتير، ستجد أيضاً تعاريف عديدة للجوانب الفيلمية المختلفة.. مثل الجُمَل الرنَّانّة التي تقولها أحد الشخصيات عن أن "الإنتاج عامل زي السِباكة"، أو محاولة وضع فن السينما في إطاره التعريفي : "السينما زي السكّينة؛ ممكن تقتل بيها حد وممكن تقرَّط بيها بصل"!، حقاً ليس لديّ أدنى فكرة عن مكمن أهمية وجود أشياءٌ كهذه في قاموس الفيلم.

(مأخذ شخصي: الريفرينسيس الكثيرة)

حسناً، أعترف أنها ليست نقطة سلبية كبيرة، لكنها في النهاية موجودة، ألا وهي كثرة المرجعيّة في المواقف الكوميدية على أفلامٌ كلاسيكية قديمة، من السينما المصرية حيناً ومن الأمريكية حيناً، قد يكون هذا شيء لا يشكّل مشكلةً عند شخص ثلاثينياً أو أربعينياً قد شاهد تلك الأفلام، لكن بالتأكيد من الخطأ إفتراض أن الجميع شاهدوا تلك الأفلام، وإلا فلماذا جائت عليهم بكثرة نُكاتٌ متصلة بفيلمنا الحالي ؟!.. من حقي أن أفهم النكتة كاملةً، وبالتأكيد (الزبون دايماً على حق) !

(مقارنة واجبة)

قد تكون مُقارنةً غير مستحقة نظراً لصنفيّ الفيلمين المختلفين، لكنها مقارنة واجبة بالنسبة لي على الأقل، فقد وجدتُ في هذا الفيلم مشتركات كثيرة مع فيلم المخرج الشاب محمود لطفي (صيف تجريبي)، وهذا ربما يوضح مكمن قصدي الحقيقي من موضوع المقالة بالمجمل.

فيلم (صيف تجريبي) كان صادقاً في رؤيته منذ المشهد الإفتتاحي، صحيح هو فيلم تسجيليّ بالأصل، وبه مَشاهد محكيّة بشكل روائي، أما فيلمنا هذا فهو النقيض الحرفي له: روائياً في معظم حاله، عدا مشاهد قليلة يمكن وصفها بأنها تسجيليّة فعلاً (حوارات خيري وخان، والقُبلات في الأفلام الكلاسيكية)، لكن بعيداً عن هذه الأصناف والأشكال السردية، أنا أتحدث هنا عن الرؤية ذاتها، الرؤية الفنيّة الإخراجية للموضوع.. كانت سديدة وفي محلّها جداً في حالة صيف تجريبي، وكان فيلماً ذاتياً جداً لمخرجه أيضاً (ظهر في الفيلم كأحد الممثلين)، واستخدم فيه العديد من الأشياء المُشابهة في هذا الفيلم؛ كتقسيم فيلمه لفصولٍ مختلفة، تعدد الشكل المُتَّبع في تصوير القضية الحقيقية (حوارات، حديث بصوت الراوي، مشاهد أرشيفية.. وغيرها)، ورغم أن هذا بالتحديد ما كان السبب الأكبر لمن تضايق من الصنف الغريب لهذا الفيلم ولم يستسيغهُ، إلا أنه كان هناك مصداقيّة من قبل صُنّاع الفيلم في رؤيتهم لموضوعهم، وفي تضافر جميع المشاهد المعروضة لخدمة فكرةً واحدةً في النهاية، وهو الأمر الغائب تماماً في حالة (بلاش تبوسني).

في النهاية الفيلم قد لا يكون بهذا السوء، خاصةً إذا ما نُظِرَ له من منظور مدى ضعف وبُهتان مستوى الأفلام في سينما بلدنا.. نعم تمثيل ياسمين رئيس كان جيداً، نعم مشهد الأنيميشن الإفتتاحي أعجبني، ونعم المشهد الكوميدي الذي ذكرته سلفاً يستحق وصفه بالـ (مسخرة) باللغة الدارجة!.. لكن مهلاً، هذا بالنسبة لي لا يعني شيئاً إذ لم يوضع في السياق الواحد الذي من المفترض على جميع عناصره أنها تخدم فكرته المنشودة.. هذا إن لم أكن مخطئاً في مسعى أو "هدف" الفيلم بالأساس، أما إذا كنت كذلك.. أعني، إذا لم يكن هذا هو مسعى الفيلم بالنهاية، إذن فما هو مسعاه بحق الجحيم ؟!


وصلات



تعليقات