السهرة اﻹذاعية "هيَ سَلَطة": عمل درامي قوي من طلاب سنة أولى جامعة..

  • مقال
  • 09:30 صباحًا - 2 سبتمبر 2018
  • 1 صورة



مقدمة..

السهرة أو التمثيلية اﻹذاعية هي عبارة عن عمل درامي قصير يعتمد على أداة الصوت في حكي حكايته، ونسج معالم المكان الذي تدور فيه اﻷحداث. لذا فأداتها ووسيلتها التعبيرية الوحيدة هي استخدام الـ"صوت"؛ سواءً أكان حوار صوتي، أو مؤثرات صوتية، أو أغنية.. حتى تتشكّل به شخصية العمل. والسهرة اﻹذاعية يُعرَف عنها قُصر المدة مُقارنةً بباقي أنواع الدراما اﻹذاعية (مسلسل - سُباعية - خُماسية - سهرة) فهي تُحكى في مدة قصيرة قد لا تتعدى بضع دقائق، ولا تزيد عن الساعة ونصف.

هذه السهرة المُعنوَنة بـ"هيَ سَلَطة" قام بتنفيذها طلاب قسم الدراما والنقد المسرحي بكلية اﻵداب، جامعة عين شمس. وقد كانت مشروع مطلوب منهم من قِبل أستاذ مادة الدراما اﻹذاعية في السنة الدراسية اﻷولى لهم بالقسم. نُفذت منذ حوالي سنتان، ونُشِرَت على اليوتيوب في أواخر عام ۲۰۱٦. إليكُم قليلٌ من اﻷفكار في ذهني عنها التي قررت وضعها في هذه المقالة نتيجة إعجابي الشديد بِها. صحيحٌ أن السهرة مدتها ثلاثٌ وثلاثون دقيقة، إلا أنّ المتعة التي تجنيها مِنها تستحقّ تخصيص لها وقتُ فراغٍ للاستماع إليها. كما أنّ اﻹيقاع هُنا كالطلقة، لن تشعر بالوقت أصلًا..

«يمكنكُم إزاحة المقالة جانبًا اﻵن، والعودة إليها بعد الاستماع إلى السهرة إن لم تكونوا من هوّاة قراءة المراجعات والمقالات»

العودة ﻷيام الجامعة.. أو، الذهاب إليها!

نقطة تميُّز العمل اﻷولى والسبب الذي قد يدفعني إلى ترشيح السهرة ﻷحدٌ ممن أصدقائي. هُنا أنتَ تشعر كأنك واحدٌ من الرُفقة الصوحابيّة التي تجمع عدد من اﻷصدقاء الذين كانوا يومًا ما زملاء الجامعة اﻷكثر تآلف مع بعضهم. يقومون بالتجمّع -في قهوة بلدي- لتوديع واحدًا منهم على وشك السفر خارج مصر نحو أوروبا بإحدى الطرق الخطيرة الغير شرعية (المركب الذي يحمل اﻵلاف)، وتجمُّعهم هذا يحدث بعد أربع سنين على تخرُّجهم من كليّتهم (أداب فلسفة)، واﻷحداث الماضية التي يتذكّرونها تأتي على سبيل استحضار اﻷيام الجامعية الجميلة التي عاشوها سويًا.

اﻷجواء الشبابيّة هُنا حُلوَة ولطيفة للغاية، أجواء الجامعة وتفاصيل أيامهم الصغيرة ملموسة ومُعبِّرة. تصلُنا عبر أحاديث اﻷصدقاء وتعليقاتهم على ما كان يحدث، وما يتمنّوه أن يكون..

ربما هذه النقطة هي أكثر ما استهوتني ودفعتني لسماع السهرة مرّة بعد المرّة: "أجواء المُعايشة القوية"؛ فترى -بأُذُنِك- شخصيات شبابيّة عدة مختلفين تمامًا عن بعض في أفكارهم وميولهم، لكنهم مجتمعون تحت سقفٍ واحدٍ هو سقف صداقتهم. وشخصياتِهم جميعًا كانت مُصدَّقة كما لو كانوا يقومون بنقل شخصياتهم الحقيقية داخل هذه الكاراكترات.

لماذا «هيَ سَلَطة» سهرة مميزة؟

اﻹخراج.. هناك الكثير من عوامل القوة في هذا العمل (المؤثرات الصوتية على وجه تحديد)، لكنّ السهرة لم تكن لتخرُج بشكلها النهائي المُقدَّم لولا وجود مخرج له رؤية قوية يريد وضعها في عمله (أتحدّث عن الرؤية اﻹخراجية فقط، ﻷنه أيضًا واحدٌ من كاتِبان أساسيّان للقصة، باﻹضافة لتقديمه حوالي أربع شخصيات مختلفة!)، فمن الواضح الاهتمام بأقل تفاصيل الشخصيات كدور كل كاركتر فيما ستقوله وتفعلهُ. تشعر أن "ميشيل ميلاد"، مخرج العمل، قد فصّل كل شخصية حسب ميول وشخصيات زملائه في الجامعة، كأنه لم يكتُب القصة -رفقة زميلته "إسراء محمود"- إلا بعد أن قام بدراسة ما في يداه أولًا من إمكانيات، وما يمكن على أصدقائه أن يُعطوه فعلًا من تقمُّص للأدوار التي ظهروا عليها.. وبعد هذه الخطوة، قام بكتابة القصة على أساس من ذلك. ﻷن السهرات اﻹذاعية أيضًا ترتكز بشكل كبير على الحوار وطريقة تحدُّث الشخصيات واﻷجواء التي تخلقها في مُحيط الشخصيات أكثر من مجرد حكي قصةً ما، كحال ما تجده في قصة قصيرة تقرأها، أو فيلمًا قصيرًا تُشاهده. لذا فاﻹعداد الجيد للسهرة وتحكُّم المخرج بشخصيات تمثيليّته وتوزيع اﻷدوار على كل شخص، كانت لها اﻷثر الهام على تشكيل شخصية "هي سَلَطة".. يُصيبني الذهول أحيانًا حينما أُفكّر أن كل هذه الشخصيات التي ظهرت بالسهرة هُم فعلًا زملاء جامعة حقيقيّون!

ويكمُن سرّ نجاح العمل من الناحية اﻹخراجية، أن المخرج يُلحَظ عليه وجود إحساس درامى نابع من الحياة ومِن المواقف التي عاشها واختبرها، اﻷمر الذي كان أساسيًا في كتابة موضوع عن رغبة شاب بالخروج من البَلَد (الطفش أو الهجّ) بسبب ازدراء اﻷحوال المعيشية بِها، موضوع ليس بعيدًا عن اعتبارهُ شيئًا كـ(الهمّ الجمعي لشباب هذه اﻷيام).. واستطاع المخرج ربط القصة بباقي العناصر ليتمكّن بالنهاية من تضفير مجهودات زملائه الذين بلغوا قُرابة الثلاثون طالبُا، في رؤية واحدة.


الكوميديا، ومزجها بالمأساة (أو العكس!)

أحد اﻷسئلة التي لم أجد لها إجابات هي هل العمل درامي جاد وبه مقتطفات كوميدية؟، أم كوميدي بحت يحمل قصةً بها شيئًا من الجديّة والمأساة؟.. أقصِد القول: ﻷيَّهُما الغلبة اﻷولى أم الثانية؟.. هناك مزج واضح -ومُبالَع حتى في نظر البعض- بين موضوع أو حبكة الفيلم الرئيسية، وبين كمّ هائل من الكوميديا، بشكل قد يُعيق من رؤية العمل ويضعه محل سؤال عن ماهيته؛ أهو يريد حكي القصة أم مجرد استعراض مقتطفات كوميدية؟، وإذا كان قاصدًا اﻷولى فلِما يضع كل هذه الكوميديا التي لا تؤثر على حبكة هجرة الشاب "طارق"؟ (خاصةً أن الحبكة لم تظهر ملامحها سوى في بداية الدقيقة الثامنة)، وإذا الثانية: فلِما يضع موضوعًا هامًا كهذا ولِما الاهتمام بالتنقّل السردي بين الماضي والحاضر؟!

شخصيًا لا أعتقد أن الجانبان كان لهم تأثير سلبي على بعضِهِما ﻷن من أهداف السهرة اﻹذاعية تحقيق البهجة أو المتعة في الاستماع إليها، كما أنّ من أهدافها "القصة" في المقام اﻷول. لذا، فالهدفان مهمان في قاموس الوسيط (لا أن يتسّم بالمُبالغة في جديّته أو كوميديته من اﻷشياء الضرورية كذلك)، وأنا أظن أن المزج بينهم جاء بشكل طيّب ومقبول. صحيح هُناك كوميديا مُفرِطة قد تجعلك تعتقد أن السهرة هدفها إضحاك المُستمع فقط (باﻷخص في الجزء المسخرة المتعلّق بالبرنامج التلفزيوني عن الكمبيوتر السحري)، لكن تقديم قصةً ذات نزعة اجتماعية وجُمَل جديّة كالتي قالتها شخصية أحد الشباب "طلّع ورقة وقلم هأملّيك شوية تفاصيل تفتكرهم كل ما تحس إنّك عايز تُعض في البلد دي ومتسافِرش" لم يكن هدفها مجرد إضافة منعطفات درامية للقصة أيضًَا!. لذا، فالحديث إن جاء، أعتقد أنه يجب أن يكون عن عملية المزج بينهم لا عن وجود شقّ وحده دونًا عن اﻵخر.

النقطة السلبية (الحقيقيّة) الوحيدة التي رأيتها بالعمل تكمن في عملية الانتقال السردي ما بين ماضي اﻷحداث (الذي نفتتح به السهرة) إلى حاضرها، فهي لم تأتي بشكل ظاهر كما يُفترض، فلم أشعر في مفاصِل الحكاية بأن زمان الحدث قد تغيّر، ويمكن ألا تلاحظ وجود تنقلات زمانية من اﻷصل إن لم تنتبه للقصة. الوسيلة المستخدمة في التنقلات الزمنية هُنا لم تكن مؤثراتٌ تُصنَع بل جُملٌ وصفية تُقال، كـ"آه!، اليوم ده كان حلو أوي" ومثيلاتِها، وهذا سبّب لي مشكلة؛ فلم أنتبه إلى هذه التنقلات -من اﻷساس- سوى بعد مراتٌ من السماع للسهرة، حيث أنه في بدايات السهرة هُناك انتقال من موقف الشارع إلى قعدة القهوة. "الحدث الماضي" المذكور هُنا ربما يكون أي حدث ماضي، فيومًا لاحقًا على الواقعة سيصنّفها حدثًا ماضيًا، لكن المقصود هو الماضي البعيد (أربع سنواتٍ سابقة)، وهذا لا يتضح سوى عند اللحظة التي تذكُر بها إحدى الشخصيات أن كل هذه الوقائع الماضية حدثت منذ أربع سنين (أو هذا ما اتضح لي على اﻷقل!!).

أبرز تجليات نقطة التنقلات الغير مُمهدة تلك توجد في منتصف الدقيقة التاسعة عشر؛ عندما تنتقل اﻷحداث من أحاديث اﻷصدقاء في القهوة البَلَدي، إلى أحاديث اﻷصدقاء في مُدرّجهم بالكليّة عبر أغنيةً يغنوها سويًا. في هذه التتابع لا يوجد فاصل بين الماضي والحاضر، مما قد يسبب تشويش في فهم جنبات القصة، فاﻷفضل كان استخدام مؤثرات مُعيّنة أو جملة حوارية ذكية ﻹيصال فكرة أن هذا أصبح زمنًا مختلفًا.

خِتامًا...

دائمًا ما كان دكتور مادتنا، اﻷستاذ "عماد مطاوع" يقول لنا في المُحاضرات جُملته الشهيرة: «الخيال أهم من المعرفة»، وهذا حاضرٌ بقوة في هذا العمل، فالسهرة اﻹذاعية الجيدة هي ما تدفعك لتحفيز خيالك، وبذل قليلٌ من الجهد في التفكير والتخيُّل مَعها لـ"ترى اﻷحداث فيها باُذنِك". هُنا، الاعتماد ليس كبيرًا على الخيال في القصة ذاتها (على خلاف لو كان موضوعها فانتازيًا مثًلا)، لكن هذا الخيال موجودٌ في طريقة وضع اﻷشياء بجانب بعض، وطريقة رسم عالم القصة.

في النهاية سهرة "هي سَلَطة" عمل لطيف ومسلي للبعض، مضحك وهيستيري للبعض اﻵخر، وقد لا يروق بتاتًا ﻷُناسًا آخرون، لكن ما لا يُمكن إنكاره هو أنّه عمل يستحق التقدير والانتباه إليه لِما فيه من نقاط عدة جذابة، خاصةً إن وضعنا في الاعتبار أن المشروع بأكمله كان في اﻷصل عبارة عن مطلَب بحثي تدريبي من مجموعة شباب في عامهم الدراسي اﻷول.


وصلات



تعليقات