"باب الحديد" وثورة المنبوذين...

  • نقد
  • 07:38 مساءً - 18 سبتمبر 2018
  • 3 صور



محطة مصر بمثابة كون صغير يحمل الشرائح المختلفة من الطبقات الاجتماعية، وهذا الحمل لا ينبع من وجود كل أنواع البشر، أو حتى الكثير منهم، بل ينتج من تفاوت دقيق بين الأنواع التي تدفقت في ذلك المكان الأسير، فهو لا يشمل ويجمع أكبر عدد من الأنواع والشخوص، بقدر ما هو يشكل بذاته مجتمع عامر، بضوابطه وقوانينه ونواهيه، وشخصياته المتفاوتة، أي يخلق مجتمع جديد وصغير، ويحرِّك شخصياته بداخله لتعلِّن التفاوت، ويصنع العلاقات والروابط، فتكن وليدة العالم الصغير نفسه، ومعبرة عن العالم الكبير في نفس الحين.

الرواي في مفتتح الفيلم هو "عم مدبولي"، وهو بائع صاحب دكان في المحطة، رسوخ موقعه وهبه قدرة جيدة على المراقبة والرصد، ورؤية تكاد تكون موضوعية في السرد، ودافعها قد لا يكون الحكمة بقدر ما هو العاطفة، مما يجعل منه ذات شاهدة وبقدر كبير ساكنة، جامدة الحراك كطبيعة الوظيفة، إلا أنه يبدأ في الاندماج مع خط الأحداث الرئيسي كفاعل ومحرِّك في مشهد النهاية، الشخص القادر على احداث تغيير مجتمعي بالرحمة الممتزجة بالرزانة، أو التي تكسو الرزانة، يلزم الصمت، أو يكتفي بالكلمة الهشة المنكسرة، في الدفاع عن النفوس الهشة المنكسرة، مثل "قناوي" الذي يبدأ الفيلم بكلام عم "مدبولي" عنه، وعن كيف وجده وحيدًا وبائسًا، وعن أكتشافه لاعاقته (العرج)، وهو اكتشاف تم التعبير عنه حواريًا بأبلغ صيغة ممكنة، حيث يقول عم "مدبولي" في حكايته ""جيت أمشي لاقيته أعرج صعب عليا""، وهي جملة بسيطة، قصيرة، وشاملة في تعابيرها عن الأقصوصة، لغويًا: بتقريب اللفظين "جيت أمشي" مع اللفظين "لاقيته أعرج" لتعميق نطاق الألم النفسي الذي يقطع نفس "قناوي"، وكذلك قصصيًا: بالتعبير عن موقف "عم مبدولي" من "قناوي"، و هو موقف عاطفي في المقام الأول، فعم "مدبولي" ليس مصلحًا اجتماعيًا بقدر ماهو شخص حساس وعطوف، قد لا يجد حلًا، أو لا يأخذ موقفًا هجوميًا أو دفاعيًا قويًا في سبيل الحق، لكنه يتصرف على سجيته العاطفية، مجرد إنسان بسيط ينظر بالعطف، ونظرته هذه لم تجعل منه بطلًا أسطوريًا مبالغ في بناء فضائله، وهذه المزية هي أحد سمات أي فيلم عظيم، بأن لا يبالغ في تفضيل شخوصه الطيبة، كل من في فيلم باب الحديد أشخاص طبيعيون، يتصرفون في منطقة رمادية، فيخطئون ويصيبون، بدون مبالغة في تدكين أو تفتيح أي صورة من صورهم سينمائيًا.

إذا نحن نتحدث عن فيلم فر من أشباح الكلاشيهية بمتنهى السلاسة، فالفيلم خالي من تصوير الملائكة والشياطين، ولمرة نادرة نرى فيلمًا لا يتحدث عن صراع ساذج بين قوى الخير والشر، بل ينهمك في تأمل عدسات العين البشرية، التي ترى، ثم تنقد، ثم تصنف، فتنفر أوتنجذب، ومرجعيتها هي الصورة المظهرية، أو القيمة المادية للعناصر وللبشر بشكل عام، وهذه النظرة هي التي تجعل من "هنومة"رمزًا للإنسان النموذجي في عيون الذكور، فقيمتها المادية -الكامنة في الشهوة الجنسية ومادة الجسد- مرتفعة إلى أقصى حد، وكذلك "أبو سريع"، فهو الفحل جسديًا، المناضل مجتمعيًا، وصاحب المكسب المرتفع ماليًا، كما أننا على هامش القصة الرئيسية نتابع خط قصصي رفيع عن قصة حب بين فتاة تنتظر وصول حبيبها إلى المحطة، وتُحرم من توديعه بشكل أكثر حميمية لأنها تخشى من أن يراها أحد من أهله، فغالبًا هي مرفوضة لأنها لاتنتمي إلى نفس الطبقة المجتمعية التي ينتمي إليها هو. سيناريو عبد الحي أديب يصوِّر عالم موحش، تتصفى فيه الروح من الحسبان، فتصبح البشرية رويدًا رويدًا مجرد صور مادية جامدة، والتعامل الإنساني يكاد ينحصر على الأجساد فقط.
وهذه النظرة المادية البحتة التي أعتلت أعين البشر نتج عنها أطيافًا مختلفة من التفرقة والتصنيف، فكان هذا التباين الطبقي، بين أصحاب المادة الأفضل بمختلف أنواعها، وبين من لم يحالفهم الحظ في أمتلاك مادة جيدة، ومن هذا كان التهميش والنبذ لهؤلاء المتدنيين في مادتهم، فباتوا منسين في ملكوت كبير، وعدسة "شاهين" تبدأ في تتبع مراحل ثورة هؤلاء المنبوذين، نحو الإنسانية التي سعوا إليها بطرق شتى ومغايرة، فمثلاً "قناوي" يعاني من الاضطهاد علاوة عن نبذه بسبب إعاقته الجسدية، وقد تبين هذا في طريقة تقديم شخصيته مع بداية الأحداث وبعد حكاية عم "مدبولي"، فأول شيء رأيناه منه كان جسده، وتحديدًا قدمه، ثم ملامحه البائسة والحائرة، ثم كلامه المتندر، على أن الصورة سبقت الحوار بكثير، أو بمعنى أدق تصوير اعاقته سبق تصوير تندره بكثير، وهذه خير برهان على أن الناس لا يروا منه إلا صورته المعتلة بعد حكاية عم "مدبولي أو على الأقل هذه الصورة هي أول ماتقع عيونهم عليها، فتمم معايرته لأكثر من مرة بسبب عرجه، و يُلقى بالحجارة وينزف عندما يحاول التقرب إلى "هنومة"، وهو في جلده هذا يكدس الحزن في أعماقه من أجل ثورة حقيقية، أما غاية تقربه فهي سعيه للكمال الإنساني والذي وجده في شخص "هنومة"، لأنها رمز الإنسان الكامل -ماديًا- بالنسبة للمجتمع، نفس المجتمع الذي يرفضه، مما دفعه للأعتقاد بأن "هنومة" هي تذكرة دخول أبواب الإنسانية، لأنها رمز للإنسان الكامل، ومع التقابل الحميمي سيتسنى له أن يحيَّ كإنسان سوي وسط المجتمع، وربما هذه العقيدة المادية الجامدة طمعته أكثر في الجنس، فعلاوة على أنه اشباع غرائزي، أصبح ممارسة لانتصار انسانيته، فهو حق ورخصة ودليل على الإنسان الذي يتحرك بداخل الصورة الصلبة التي يتصورها المجتمع. وعلى نطاق أوسع فثورة العمال مع "أبو سريع، وتظاهرات الحركة النسائية، كانت بيان أخر عن السعى نحو ادراك الإنسانية، بتحقيق الحق والحقوق.




تعليقات