فعاليّة شاهين: اسكندرية كمان وكمان.. الفيلم النموذج

  • نقد
  • 11:16 مساءً - 22 سبتمبر 2018
  • 2 صورتين



(اقتطاع الجزء من السياق..)

تخيّل أنّك تشاهد جزءًا ثالثًا من سلسلة أحد الأفلام دون مُشاهدة جزئيها الأوّلين.. تخيّل أنّك تشاهد Remake لفيلم كلاسيكي هام لم تشاهده.. تخيّل أنّك تشاهد فيلم قد حدث في رحلة صناعته من حكايات وروايات ما هو أكثر دراميّة من قصة الفيلم ذاته، لكنّك تشاهد الفيلم فقط.. تخيّل قليلًا..

مثل هذه الأفعال تقلل من قيمة الأفلام، لأن في هذه الحالة، جزء أساسي من قيمة العمل تسري في (سياق محدد) من الخطأ إغفاله، أو التعامل مع مفرداته وحدها. فاقتطاع جزء من السياق سيُكوّن وجهة نظر مختلفة، رؤية مختلفة، وانطباع مختلف. لكن ما هو الصحيح وما هو الخطأ في مثل هذه المسائل؟، هل يجب -مثلًا- ألّا يُشاهد شخص ما فيلم كـ(اسكندرية كمان وكمان) دون القراءة عنه وعن صانعه؟، هل يجب فعلًا ذلك ودون ذلك سيُفقَد كل شيء؟.. ربما مُشاهدة فيلم مثل (حدوتة مصرية) يكون أسهل في تقبُّله بسبب كونه فيلم يتحدث عن ذات صاحبها بالتركيز على أعمال/أفلام هذا الرجل، لكن (كمان وكمان) يتحدث عن الأمور الصغيرة بين السطور، عن الحكاوي التي تناولتها الجرائد وعن الأقاويل التي خرجت كـ"إشاعات" على شاهين.. هل يتحتّم عليّ، عدم الاقتراب إذن من هذا الفيلم إلا وقد قرأت عنه (ومعها فهمت السياق جيدًا) حتى أهضِم تجربة مُشاهدة الفيلم الأولى؟، أم أنه لا مُحال أن أستمتع فعلًا بهذا الفيلم -إذا حَصُلَ- إلا في تجربة مُشاهدته الثانية أو الثالثة؟، ما الذي يجب فعله؟

أتذكر هُنا تجربة العام الماضي مع (Mother!).

.. .. .. ..

شاهدت "كمان وكمان" منذ يومين في فعالية "النسخ الشاهينية المُرمَّمة"، وقد قيلت جملة "هذا الفيلم إما أن تحبه وإما أن تكرهه" أكثر من مرة في الندوة القصيرة التي أعقبت عرض الفيلم في قاعة "زاوية" الكبيرة (تولى نقاش الندوة "ماريان خوري"، مع المخرج "خالد الحجر" والناقِد والسيناريست الشاب "محمد المصري")، وهي جملةً توضح مدى المبالغة في تقبُّل نوع فيلم كهذا يتحتم على مُشاهدهُ البحث والتنقيب عن المعاني وما بين القُصاصات حتى (يفهم) من الأساس ما الذي شاهده للتو؛ لأن الفيلم شديد التعقيد من الناحية السردية، وشديد التداخل والتشوش في قصصه المتشعبة التي هي أصلًا لا تحكي عن شيء "ثابت" أو "محدد" في عقل صانعه، بقدر ما تريد -وتقصِد- حكي الكثير والكثير من الأمور المبعثرة، سيريالية الطابع، التي كانت تتبدّل في كل يوم كما قال معاصري "شاهين"، للدرجة التي يمكن فيها سؤال: هل هذا الفيلم صُنِعَ بدون سيناريو مكتوب؟، على المُشاهد بَقَى ربط هذه الأمور تحت بؤرة واحدة وتحت معنىً -مُناسب له- واحد، وإذا حصل يبقى خير وبركة، وإذا لم يحصل، فليُغادر قاعة العرض فورًا، ولا يُرهِق نفسه كثيرًا بالتأويلات المفرطة التي سيمتلك كل شخص أحب الفيلم (تفسيره الفلسفي الخاص) كي يُدلي به.. هذا فعلًا فيلمًا إما أن تحبه (تحبه فعلًا)، وإما تكرهه (تكرهه تمامًا).

قصة "كمان وكمان" تتحدث كما مكتوب على المواقع السينمائية، عن يوسف شاهين/يحيى، أو يحيى/يوسف شاهين الذي يتذكر تفاصيل علاقته الفنية والإنسانية بـ"عمرو" (عمرو عبدالجليل، في إشارةً ليحيى/إسكندرية ليه؟) منذ فوز فيلمهُما بدب برلين الفضي حتى انفصالهُما الفني، وفي الوقت الذي يعيش فيه "عمرو" أيامًا مضطربة من حياته، تلك التي شهدت إضراب الفنانين، ويقترب "يحيى/شاهين" هذه الفترة من "يســرا".. يُسرَد الفيلم في تقاطع ما بين العام والخاص، والوثائقي السردي بالروائي.

"يسرا" في لقطة من الفيلم

فيلم علاجي/تجربة علاجية/ثيرابي فيلم.. (؟)

المثير للدهشة في تجربة مُشاهدة فيلم كهذا، هو كمّ "الأفكار" التي ستخرج بها، أفكار مهولة حقًا، وستُسبب عصفًا ذهنيًا ليس من السهل مُشاهدة فيلم آخر مثلًا بعده. شاهين هُنا يريد حكي الكثير عن حكايته الشخصية، لكنه يعلم أن المُباشرة في السينما أمرٌ مفتعل، فيتقنّع تحت شخصية "يحيى" التي قدّمها مرات قبلًا، ليكون جزء من الشخصية التي نراها أمامُنا على الشاشة هي شخصية "يحيى" فعلًا لا شاهين، يحيى بكل غضبه وهَوَسه بالفن، أما شاهين فهو الشخصية التي ابتدعت يحيي، ما الذي يريد شاهين تصديره عن نفسه هُنا؟.. أو، ما الذي يريد قوله عندما يكون الميكروفون أمامهُ؟.. بالتأكيد من الاستسهال قصد التطابق الحرفي، لكنه في النهاية لا يحكي عن نفسه في فيلم تسجيلي وإنّما روائي، عليه بإيهامُنا إذن أن الشخصية التي أمامنا لديها كيان وروح بجوانبها الثلاث (المادي والاجتماعي والنفسي) بعيدًا عن رغبته الأساسية أن هذه الشخصية هي ما سوف تعبّر عن لحظاتٌ حدثت في واقع شاهين.

مصطلح "الذاتية" التي يوصَف بها الفيلم هو مصطلح فضفاض برأيي، لأن أي شيء يفعله أي مخرج بالتأكيد به جانبٌ ما يمكن وصفه بالـ"ذاتيّ"، بحُكم أنه لم تأت الأشياء في رأس صانع الفيلم من بنات فكره بشكل Pure وكامل، وإنما هي (مصفوفة الحسيّات والتجارب الشعورية التي اختبرها في حياته) هي التي كوّنت له هذا المعنى الذي أنشأ هذا المفهوم الذي أخرج هذه الفكرة. لذا فالحديث عن أفلامًا ذاتية لشاهين وأفلامًا غير ذاتية ليس الحديث المُناسب تمامًا عند قراءة فيلم كـ(اسكندرية كمان وكمان) لأنه سيُحتّم على المُشاهِد اعتبار أن شاهين "قَصَد" و"لم يقصِد".. وكما يُقال؛ المعنى في بطن الشاعِر.

هُنا الأجواء الحميمية واضحة سواءً الفيلم دخل دماغك أم لا، يمكنك الشعور بـ"حالة" يوسف شاهين التي يريد فيها حكي شيءٍ "شخصي" للغاية، لا يريدَك أن تتماهى أو أن تعاطف معه، ولا أن تنبهر به، يريدَك فقط أن تفهمهُ. هو كأنّه يُعرّي نفسه أمام الجميع في قصيدةً يُهديها لذاته الماضية، ويُقدّمها بنفس الطريقة التي شابَ ووَلَع عليها؛ عبر فيلمٍ سينمائي.. لهذا "كمان وكمان" يمثل الفيلم النموذج التي يمكن من خلالها قراءة/دراسة/معرفة شخصية "يوسف شاهين".

الحديث عن فيلم كهذا يحتاج أيام للكتابة عنه، لست من الفئة الأولى التي أعجبهُم الفيلم، ولست من الثانية التي كرهوه، يمكنني أن أقول أني لم أحبه لكني لم أكرهه.. "لم يعجبني" أنسب، لأني أعلم أن مُشاهدة "كمان وكمان" (الذي هو ربما أكثر الأفلام الشخصية ليوسف شاهين ذاته) في زَمَن آخر (وفِكر آخر؛ عبر القراءات الأخرى)، بالتاكيد كان سيكون وقعهُ مختلفًا، السؤال هُنا هل كان ليعجبني حينها أم لا؟




تعليقات