فعالية شاهين: شاهين يهبط على الأرض.

  • نقد
  • 12:56 مساءً - 23 سبتمبر 2018
  • 3 صور



من العجب أن ترى مخرج كـشاهين بدأ مسيرته بالفانتازيا، ثم صنع أفلام غنائية وأستعراضية،أو ميلودراما بلهجة ذاتية، يصنع فيلمًا واقعيًا بشكل بحت، بديع يضاهي في صلابته وحيويته أفلام أعلام الواقعية، كصلاح أبو سيف و حسين كمال وهنري بركات وغيرهم.

الأرض بمثابة حالة نائية تمامًا عن عوالم شاهين المعتادة، لحظة يترك فيها السماء التي اعتاد أن يحلق فيها راقصًا كجين كيلي ، فيهبط على الأرض، ليجد حكايته الجديدة التي يريد أن يرويها، والتي هي نفسها لازالت تحمل طابعه في كنفها، تولد في جذورها الأغاني كما ولدت في النجوم التي تراقص بينها، ولميلاد الشعر والحياة والفن الخالص في الحالتين نفس الأصل، ولكن لكل منهما صورة مغايرة، فالسائد في سينما شاهين أن تكون الأنا حاضرة، والدافع ليس الكبرياء وإن حضرت النرجسية، بل الدافع الحقيقي هو صدق الحالة التعبيرية التي يخلقها شاهين في سينما، فنشاهد أفلامًا شخصية بشكل قد يفاجئء البعض، وقد يزعج البعض، وربما هذه السيادة الذاتية وصلت إلى الذروة في سبعينيات وثمانينيات القرن الوالي، لكنها بكل تأكيد كانت حاضرة -ولو بلمسة مخطوفة- من أول أفلامه.

أما ما يجعل الأرض يحمل الطابع الشاهيني ولكن بصورة مغايرة، هو الانفصال الذي بدى بين الهيكل العام وبين الروح الساكنة، فلكنة شاهين كانت حاضرة في تكنيكه وأدواته البصرية، وصياغته المسرحية في تكوينه للصورة وتحريكه للعناصر، لكن طبيعة الأقصوصة نفسها فرضت عليه تقديمًا مختلفًا للاداءات التجسيدية، وجوًا عامًا مختلفًا رغم أنه يشكِّله بنفس الأدوات، والمقصود هنا أولوية أن يكون الفيلم واقعيًا، وليس فقط صادقًا، وعلى هذا فسيحمل تعبيرية شاهين الخاصة وسيروى بنفس الريشة.

وفي حقيقة الأمر فيلم الأرض لا يحمل أفكارًا بعيدة عن فن شاهين في تلك الفترة الزمنية، فهو يجادل الذات المصرية في أسرار الإنتكاسة الحقيقية التي انتابتها، فالخسارة المصرية لا ينبغى أن تنحصر في الأذهان حول كونها خسارة عسكرية فحسب، أو تصبح الحرب مجرد سيوف ومدافع تفتش عن المكان، فالخسارة في الأصل هي خسارة الأصل، خسارة أرض الجدود، وسر الوجود، في الحرب الأزلية التي أنبثقت مع بداية الخلق، بين المستعبد والمالك، وهذا مايرويه حتى المليجي في ديالوج من خطاباته الشهيرة "لكن كنا رجالة، ووقفنا وقفة رجالة"، وكأنه برهان حقيقي على فشل الثورة، بفتور الإنتفاض، وخمول العزائم، فأزلية الحرب لا زالت قائمة، والمستعبد لا زال هو المستعبد، كل شيء على صورته الأولية والمعتادة، لا شيء تغير، سوى لنفوس التي إرتضت لأرضها الظمأ، فهانت الكرامة، وإنطفأت الثورة، والتي كان يجب على شعلتها أن تستمر، فإن لم يكن للإنتفاضة، فليكن لبث الضياء.

والحق أن لسان الفيلم كان سعى أول ما سعى إلى إثارة ركيزة الفداء، فمستهل الفيلم كلمات الأغنية الشهيرة (والتي نُسبِت إلى الأبنودي): "الأرض لو عطشانة..نرويها بدمائنا". والحث على فضيلة التضحية جاء بالتذكير بحاجة الأرض -وهي أصل كل حياة- إلى قوتها، ثم يدعو إلى سد تلك الحاجة ولو باستبدال الدماء بالماء الغائب، ومن هنا يصعد الفيلم نحو هذه الغاية النبيلة، بيد أن جملة الاستهلال تلك قد تكون ملخصًا مجازيًا شعريًا للفيلم ككل، أو لقضيته الفلسفية، فالفيلم يبدأ بهذه الدعوة الغنائية الحماسية، والتي قد تدنو من أذن المتفرج وكأنها مبالغة أدبية لا أكثر، دافعها الاخلاص والانتماء والفضيلة،حتى لو كانت خالية من الشجاعة التي يتوجها الفعل الحقيقي، ولكن هذا التعبير الشعري -نرويها بدمائنا- يتحول من مجرد قول حماسي مبالغ فيه، إلى فعل ثوري حقيقي، فنري "محمد أبو سويلم" حقًا يروي الأرض بدمائه في مشهد الفينال، أو في "ماستير سين" الفينال لو صح التعبير.

ومن الملفت أن المشهد لم يكن أساسًا في رواية الكاتب الكبير عبد الرحمن شرقاي والتي أستند عليها حسن فؤاد في كتابة سيناريو الفيلم، فلم تكن هذه الإضافة البديعة إلا تحقيقًا للمبالغة الشعرية في قصيدة الأبنودي، فأصبح الأمر أشبه بصناعة فيلم يضحي فيه حقًا أحمد شوقي بالجنة من أجل أن يحيا في مصر، على مذهب بيته الشعري الشهير: "وطني لو شغلت بالخلد عنه ... نازعتني إليه في الخلد نفسي".




تعليقات