فعاليّة شاهين: عودة الابن الضال.. المأساة الموسيقية

  • نقد
  • 06:16 مساءً - 27 سبتمبر 2018
  • 3 صور



“آدي اللي كان وآدي القدر وآدي المصير.. نودّع الماضي وحلمه الكبير”

"المأساة الموسيقية".. هكذا وجدت بوستر الفيلم يُخبرني أثناء تقليبي في صفحات "مجلة الفيلم" قبل أن أُشاهد الفيلم ببضعة أيام. لذا فتوقعت أن يكون العمل ملحمي على صعيد الموسيقى، وعلى صعيد استخدام هذه الموسيقى داخل القصة، فمن شاهد أفلام يوسف شاهين يعلم مدى وَلَعه بالموسيقى سواءً التصويرية منها، أو المشاهد الاستعراضية الموسيقية، وهو دائم الربط بينها وبين قصصه التي يحكيها. (مأساة) توحي بالهول والفجاعة والتراچيديا للأمور، و(موسيقى) توحي بالمرح والتعبير والحياة. لذا، لم أعلم تمامًا ما يُمكن أن أنتظره، لكني كنت متحمس بشدة لتناول الوليمة الدرامية هذه أيًا كانت، ﻷني أعلم أن هذا الفيلم يعدُّه الكثيرون من أفضل أفلام شاهين والسينما المصرية، وﻷن تذاكر دخول الفيلم -الذي عرض باليوم التاسع من فعاليّة النسخ المُرمَّمة- كانت قد نفدت كلها قبل يوم ونصف من العرض.. ربما هو بالفعل أكثر فيلم بالفعالية حصد إقبالًا جماهيريًا.

لكن ومُبكرًا جدًا، ما جاء بدا مناقضًا تمامًا لما يمكن توقعه؛ فالمشهد الافتتاحي التتري الرائع الذي لا يتعدى الدقيقتان والنصف به تلاعب بتأثير الموسيقى حيث اﻹتيان بمشهد (حزين) يصحبهُ موسيقى (سعيدة)؛ فيبدأ الفيلم والكاميرا تراقب مهرج من خلفه في الظلام الدامس، يصعب تمييز ملامحه أو شيئًا من شخصيته، يقوم بالتبرّج أمام المرآة للعرض الذي سيقدّمه، والمقطوعات اﻷوّلية التي تأتي في موسيقى الدقائق اﻷولى من الفيلم تكون مرحة، لكنها تتحول للطابع التراچيدي.. ثم تنقطع في اللحظة التي يهيم فيها المهرج بالبُكاء (كأنها تحترمه) خمسة عشرة ثانيةً -فيها يظهر اسم "يوسف شاهين" المخرج- وبعدها، تعود الموسيقى المرحة، موسيقى السيرك.

بداية عبقرية تُحطم أية توقعات موضوعة، وتُعطينا فكرةً عن الفيلم الذي نحن مُقبلين عليه؛ فيلمًا سيكون مأساويًا في أجواءه وربما في وقعُه نعم، لكن المأساة تحدث في عالمٍ مرحٍ باﻷصل كالسيرك (فرحة عودة الابن الضال - والحزن الذي يأتي به الابن الضال). هُنا لا تكون المزيكا مبهجة، بل يُمكن أن تكون مُحطّمة تُعمّق من الجرح.

ينقلنا شاهين بعد هذه الافتتاحية إلى مجريات قصتنا (قهوة ونادي سينما ميت شابورة) لنعلم أن "طُلبة" (شكري سرحان) هو صاحب المكان وصاحب المعصرة (المصنع) الذي لا يطيق أن تتعطل إحدى ماكيناته، ونعلم أنه هو الابن اﻷكبر الذي تقرّر أن يتولى مسؤولية الاعتناء بممتلكات العائلة (الأرض والحظيرة والمصنع ودار السينما والمقهى)، فتَرَك دراسته في الكلية الحربية وتفرّغ لمصالح عائلته. بعدها تنتقل اﻷحداث للحبيبان "إبراهيم" و"تفيدة" في يومهُما الدراسي اﻷخير بالثانوية، وتبدأ الموسيقى بالظهور من جديد في مشهد في منتهى الجمال وأغنية "باي باي" التي تعتبر قصيدة شاعرية للأيام الجميلة المنقضية في تلك المدرسة.


الفيلم ربما لا يقتصر على حكي تناقضات حياتيّ الشاب الخارج للتو من الثانوية والراغب بالسفر للخارج لدراسة چيولوچيا القمر وعلم الفضاء (إبراهيم)، والشاب العائد للتو من غُربة أوروبا بعد أن عاش اثني عشر عامًا ذاق فيهم الويلات وأشكال القهر والمُعاناة المختلفة (علي)؛ فنُصِبَ عليه ودخل السجن، وفشل في تكوين الثروة التي حلم بها.. ربما من الظلم إقتصار الفيلم على هذا البُعد، لكنه ما رأيته وأكثر ما أثر بي، ومن هُنا سأحاول الحديث قليلًا عن هذه الثنائية. صحيح أن جانب صراع اﻷخوّة بين طُلبة/اﻷخ الكبير الذي تعب واستحمل رضاءً لعائلته، واﻷخ اﻷصغر/علي الذي عاد لوطنه فارغ اليدين وكان مُنتظر منه أن يصبح مهندسًا كبيرًا وربما مليونيرًا، هذا الجزء من الصراع هو فعلًا ما تدور حوله حبكة الفيلم في اﻷساس؛ فالفيلم يحكي عن مرحلة "عودة" هذا الابن الضال لعائلته، والمشاحنات التي ستنبثق من هذا الفعل في طيات هذه العائلة. لكن بالنسبة لي تعاطفي ذهب ناحية قصة "إبراهيم"، وإن كانت باقي قصص هذه العائلة الكبيرة هامة ومؤثرة، وقوية في كل شيء، لكني أشعر أني بحاجة لمُشاهدة ثانية كي أُجمّع اﻷمور كلها من جديد.

حسنًا، دعونا اﻵن نتحدث عن هذه الثنائية؛ الابن اليافع والابن الضال.. هم ليسا أخوة حتى يتم مُقارنتهم من منظور ذات العائلة، لكنهم أقارب من الدرجة اﻷولى (علي هو عم إبراهيم، ﻷن إبراهيم هو ابن "طُلبة") ويشتركان في ذات هاجس الهروب من البلد، لكن المنظور مختلف، فكيف كان الاختلاف؟

إبراهيم المستقبل، وعلي الماضي

هناك في الدراما ما يسمى (Anti-Hero) أو نقيض البطل، ودوره غالبًا ما يكون إعطاء معلومات عن سمات وشخصية البطل من خلال كون هذه الشخصية تتميز بمتناقضات الفكر أو الفلسفة الموجودة عند البطل، فيكون دورها إظهار هذه الصفات، فتظهر شخصية الـ"بَطَل" الحقيقية في المواقف التي يستفزها فيه البطل الضد، فتصبح بمثابة "رد فعل". هُنا تحدث ذات الفكرة، نحن نعلم الكثير عن "علي" عبر شخصية مناقضة له في مجريات ووقائع حياته ("إبراهيم" الذي جسده "هشام سليم" حينما كان لا يزال في السادسة أو السابعة عشر)؛ شخصية كل أملها السفر بالخارج ولديها من اﻷحلام والطموحات ما يجعلها تعتبر الضرب والسب واﻹهانة شيئًا مقبولًا إذا كان سيوصلها لرغباتها في النهاية.. شخصية يافعة جائعة لتحقيق خطوات حياتية كبيرة، وربما عظيمة. يقول "عايز أشوف فيه ايه في الناحية التانية". هكذا نرى شخصية "علي" الذي يتميّز بكل ما هو عكس ذلك؛ فهو مكسور الجناح، مُحبَط، تائه، فاقد للشغف أو الرغبة بشيء، مستسلم تمامًا ﻷمواج البحر التي لا تتركه في حاله فور العودة.

الصراع اﻵخر يحدث داخل شخصية "إبراهيم" ذاتها، ليس من جهة تمرُّده على اﻷعراف بالسفر للخارج وما يُصاحب ذلك من رفض لمن حوله ومن صديقته "تفيدة" (ماجدة الرومي) فحسب، وهي التي تعلم أنه إذا هجرها ربما لا يعود مجددًا أبدًا، وخاصةً من أبيه "طلبة" الذي يريده أن يدخل المعهد البيطري القريب من بيت العائلة، لكن أيضًا ﻷن إبراهيم كان ينتظر من علي أنه عندما يعود، سيكون عاملًا مساعدًا ﻹقناعه أكثر على السفر، فهو كمن يتخده مثل أعلى ﻷنه حقق ما هو صحيح من وجهة نظره. وفي عائلةً كتلك ووسط محيطًا كهذا، بالتأكيد عودة الابن الضال مكسور الجناح هو أمر مُحبط جدًا لمعنوياته.

هدى سلطان ومحمود المليجي في لقطةً من الفيلم


كيف كانت الموسيقى، أهي مأساويّة حقًا؟

لا، "المأساة" الحاصلة هُنا ليست في مجريات القصة ولا تجربة المُشاهدة حتى (وإن كانت شخصيات القصة في حالة ألم داخلي ومعاناة نفسية دائمة، تحديدًا "فاطمة" التي جسدتها "سهير المرشدي")، وإنما في المحصلات الختامية، مشهد تفجُّر اﻷحداث الختامي، هكذا تقصد أن تقول الكلمة التي تعتلي عنوان الفيلم على الملصق الدعائي رمادي اللون. لذا فبَعد مُشاهدتي للفيلم، أعتبر وضع جملة كتلك لم يكن مناسبًا تمامًا، ﻷنها يمكن أن تُعشّم المتفرج في انتظار شيء تراچيدي هائل بينما اﻷغنية الوحيدة التي تنطبق عليها المقولة هي اﻷغنية اﻷخيرة بالفيلم، أحد أشهر اﻷغنيات التي غنتها "ماجدة الرومي"؛ "مفترق الطرق". . .

صحيحٌ أن كلمات اﻷغنيات الاستعراضية الثلاث اﻷولى (باي باي - الساعة - الشارع لنا) كلها تسير في النهج التراچيدي المؤلم التي تُؤرخ ﻷحداث ما بعد نكسة ٦٧، لكن طريقة تقديم تلك اﻷغنيات حُلوَة ومرحة اﻷجواء، وتُحيل الفيلم إلى تصنيف "ميوزيكال/استعراضي" حتى.

باختصار؛ الفيلم تراچيديّته تكمن في التفاصيل وفي الحكايات تحت السطح وفي (نهاية أحداثه) بالتأكيد، و"المأساة" هي ما لها الغلبة هُنا نعم، لكن هذا لم يمنع من تقديم الفيلم بشكل بعيد تمامًا عن السياق الميلودرامي هذا.

فيلم "عودة الابن الضال" هو فيلم رائع ويستحق المُشاهدة مراتٍ كثيرة ﻷن تفاصيله أكبر من أن تُلتقَط كلها في مُشاهدةٍ واحدةٍ، وهو بالتأكيد من أبرز أعمال يوسف شاهين التي تأتي على الذهن.




تعليقات