فعالية شاهين: المهاجر وسيمفونية الرحيل.

  • نقد
  • 04:50 مساءً - 28 سبتمبر 2018
  • 1 صورة



من الساذج النظر إلى ما يرويه شاهين أو بالأحرى ما يقتبسه يوسف شاهين من التاريخ الإنساني على أنه تأريخ للأحداث، أو حتى صياغة ذاتية مختفظة بالقوام القصصي الرئيسي، فنهج القص الشاهيني -كما هو واضح للعيان- لا يلتزم بحقيقة تاريخية، ولكنه يسعى وراء حقيقة فلسفية، ينتزعها من روح الشخصية التي يجسدها بنظرته الخاصة، المختلفة والجريئة، العميقة والعفوية، وهذه النظرة لا تتحلى أبدًا بالصدق، ولكنها لا تعمد الكذب، أو بتعبير أدق لا تسعى لتزييف التاريخ، أو حتى إعادة النظر إلى صفحاته بصورة مغايرة، لغرض سياسي او اجتماعي يمس الشخصية نفسها، ولكنها -نظرة يوسف شاهين- تطمح إلى التصوير الذاتي للحكايات الثرية، وخصوصًا تلك التي تتحلى بطابع ملحمي، أو تتبرج بصورة بصرية بديعة، على أن هذه الصورة ستصبح مجرد شكل مظهري، روحه نفخها شاهين من روحه، وبثها أفكاره وخواطره وتساؤلاته، وحرك شخصيته في مكانها وزمانها، وفي أجواء وطابع عام يشبه الطابع الخاص بهذا الزمن وهذا المكان، ولكن القصة نفسها لا تتحرك كما تحركت القصة في تراثها، والشخصيات لا تتحدث بنفس العبارات التي انطلقت منها في صراعها الحقيقي الأصلي من التاريخ الإنساني ككل، والديني بشكل خاص في حال الحديث عن فيلم المهاجر، أي ان يوسف شاهين يحتفظ بالزمان والمكان والشكل البصري العام، مع خلق الحالة المسايرة للمضمون الشكلي، ثم يخلق مضمونًا قصصيًا وتعبيريًا خاصًا به، وبنظرته المغايرة، أي أن عملية الصناعة السينمائية هنا لا تعد تزييفًا أو تغيرًا أو تشويهًا، بقدر ما هي رواية لأحلام سينمائي محنك، عن قصة أثارته وحركت فنه.

وهنا تأتي المعضلة الوصفية، أي تأتي الحيرة في اختيار المسمى الحقيقي لهذا العمل، هل يقول يوسف شاهين أنه رؤية ذاتية لقصة نبي، جسدها في شكل إنساني بحت حتى يخلص نفسه من أي قدسية قد تعيقه من رسم أحلامه بحرية؟ أم يصفها بأنها مجرد قصة مقتبسة من التراث الإنساني لا علاقة لها بأي رمز مقدس؟

في الحقيقة أمر المعضلة انتهى بتبني الوصفين، وصياغة كلا منهما في المناخ الاجتماعي والثقافي المناسب لكل وصف منهما، ففي بداية الفيلم تظهر فقرتين كلاميتين، واحدة بالعربية، والأخرى بالفرنسية، العربية تصف الفيلم بأنه مجرد اقتباس من تراث الإنسان؛ أما الفرنسية فوصفته -الفيلم- بأنه تجسيد لقصة حياة النبي "يوسف" ووالده "يعقوب".

وبعيدًا عن أنه مستهل متناقض ومتساهل في التعامل مع الجمهور، إلا أننا نستطيع أن نقول أن شاهين أمسك العصا من منتصفها كما يقول المثل الشعبي، فهو من ناحية حكى ما كان يرغب في أن يحكيه، وبالطريقة التي راقت له، وأوضح غرضه الفني أمام الجمهور الفرنسي، وربما كسب احترامهم وتقديرهم نظرًا لأنه تعرض لتابوه (تجسيد الأنبياء)، ومن ناحية أخرى أخمد قليلًا من نيران الغضب التي قد تشتعل ضده في المجتمع العربي بأن تظاهر ببعد فيلمه عن تجسيد الانبياء.

وبعيدًا عن المظهر العام للفيلم ، وتعرضه الفني لتابوه، يمكننا استقراء متسع كبير من المفاهيم الإنسانية، ومن الصراعات النفسية، في حالة سينمائية مميزة ومعبرة عن الكثير، وهي حالة وليدة للحكاية الأصلية، والصورة البصرية العامة لتصويرها، وما يكسوها من شريط صوت وموسيقى، إلى جانب طبعًا الطابع الذاتي في التكوين والسرد.

هذه المفاهيم والخواطر الكامنة في جوف الحالة الخاصة تطرقت إلى شتى المشاعر والتجارب، فهو فيلم عن الرحيل في المقام الأول، أو على الأقل هذا المفهوم في حد ذاته - أي مفهوم الرحيل- جاء في الصدارة، أي جاء في العنونة، ليكن اسم الفيلم "المهاجر"، لا "رام" مثلا، أي أن الفيلم لم يعر لاسم الشخصية -والتي من المفترض أنه بصدد التطرف إلى حياتها- نفس الاهتمام الذي أعاره للحالة، أو بالأحرى كناية من كنايات "رام"، بيد أنه -الفيلم- اختار لفظًا وصفيًا للحالة أو للحدث الذي ستخوض فيه المشاعر والصراعات الرئيسية، ولم يختر وصفًا يشير إلى المكانة والمنزلة التي حظى بها "رام" في تاريخ الإنسانية، كأن ينعته بلفظ "ابن يعقوب" مثلًا، ناهيكم عن أن اسم "يعقوب" لم يظهر إلا في المقدمة الكلامية للفيلم.

وبهذا فأن الفيلم لا يروي قصة إنسان عظيم، بقدر ما هو يروي قصة إنسان فقط، مبالي في مجمل الأحيان باستعراض طبيعة كونه إنسان أكثر من امكانية كونه مصلح وخّير، تجسيد مختلف لطبيعة إنسانيته لا لطبيعة عظمته ولا لمكانته ومنزلته، فهو "رام" الإنسان البسيط، الضعيف وسط أخوته، السعيد بين يدي أبيه وحكمة أبيه، الحالم بأن يدب المروج الخضراء في قلب الصحراء، المتردد عندما تثور الشهوة في الأعضاء، والولهان عندما تتموج العاطفة على الألسن والشفاه، أو وعندما يتبرج كلا منهما -الشهوة والعاطفة- في حسن مليح، أو حسناء هيفاء.



تعليقات