سينما ۲۰۱۸: مخرجون صاعدون يتألقون في أفلامهم اﻷولى

  • مقال
  • 08:48 صباحًا - 17 فبراير 2019
  • 1 صورة



يعتبر عام ۲۰۱۸ عامًا براقًا على صعيد أفلام "العمل اﻷول" لمخرجينها أو ما يعرف باﻹنجليزية بالـ Debut Films، فظَهر عدد من اﻷفلام القوية التي نافست على جوائز هامة في مهرجانات أوروبا ونالت رواجًا نسبيًا بين الجماهير. جميعها أفلامًا طويلة أولى في رصيد صانعوها بعالم اﻹخراج السينمائي، وقد كانوا محظوظين كي يتم تسليط الضوء عليهم مِن اﻵن في مشاويرهم الفنيّة. في هذا المقال سنستعرض أقوى هذه اﻷفلام التي جذبت الانتباه، والتي تبشر بصناع أفلام واعدون سيكونون أسماءً لامِعةً في قادم السنين، وسوف يتم تذكّرهم دائمًا بهذه اﻷعمال.

ما فعله فيلم برادلي كوبر (A Star Is Born) العام المنصرم هو شيء سيوضع في اعتبار أي صانع أفلام يخطو خطواته اﻷولى، بغض النظر عن آرائنا في الفيلم نفسه (حوالي ستون جائزةً دولية من واقع مئتان وخمسون ترشيحًا منهم ثماني ترشيحات للأوسكار، و"۲٤۰" مليون دولار في الـ Box Office حتى اﻵن!).

. . .

الفيلم اﻷول: Mid90s

اسم مخرجه: جونا هيل

عمره: ۳٥ عام

بدأتُ بهذا الفيلم ﻷنه أكثر ما لمسني بين المجموعة. فيلم الممثل الشهير بأمريكا "جونا هيل" الذي يجلس للمرة اﻷولى في كرسي اﻹخراج بعد أن أخرج أغنيتين مُصوَّرتين (Music Videos) مُسبقًا. القصة تحكي عن "ستيڤي"، الصبي ذو الثالثة عشر الذي يريد أن يخرج من عباءة أخيه اﻷكبر وأن يجرب أشياءً جديدة للمرة اﻷولى في حياته، فيجد ضالته في صحبة من اﻷصدقاء العاشقين للتزلُّج الذين يضمّوه وسطهم، ليبدأ اكتشافه للحياة معهم. الفيلم رائع للغاية، ملئ بالتفاصيل القصصية، فيّاض بالمشاعر والعواطف، يجذبنا إلى رحلة ستيڤي وأصدقائه ويلامس مرحلة كل شخص فينا كانت المراهقة فترة عصيبة أو حلوَة عليه، تلك المرحلة التي يكون فيها الشخص تائهًا يبحث فيها عن نفسه وعن دوره بالعالم، ليكون السؤال ماذا تريد أن تفعل بحياتِك؟ ملخصًا لكل شيء.

أفضل ما بالفيلم المُصوَّر بالكامل بالـ ۱٦ مم في ظني، هي التفاصيل الصغيرة المكتوبة؛ جونا هيل كان يقول أنه ظلّ لفترة طويلة يكتب سيناريو هذا الفيلم، وكان كل ما تأتي عليه لحظات يشعر فيها بالحزن أو الغضب يذهب إلى غرفته ويُكمل كتابة السيناريو، لذا فالسيناريو واضح عليه التفاصيل المكتوبة جيدًا، وتشعر أن الفيلم بأكمله عبارة عن "مواقف حياتية" متتابعة ومستقلة، مكتوبة بشكل يدمجك في أحداثها دون أن تكون منفصلة عن سياق القصة اﻷساسي.

لم يترشح الفيلم لجوائز كثيرة للأسف، رغم أنه يملك إمكانيّات هائلة به. هو حتمًا أحد أقوى أفلام الـ Coming of Age التي أشاهدها على اﻹطلاق.


الفيلم الثاني: Blindspotting

اسم مخرجه: كارلوس لوبيز إِسترادا

عمره: ۳۰ عام

لم يسمع الكثير باسم هذا الفيلم، رغم أنه يستخدم معالجةً فكاهية في مناقشة موضوع حساس للغاية هو العنصرية ضد السود بأمريكا، فعلى خلاف فيلم العام قبل الماضي 'Get Out' (كان هو اﻵخر العمل اﻷول لمخرجه "جوردان بيل" بالمُناسبة) الذي نال حينها ضجّة خيالية، وجوائز كثيرة غير مستحقة في رأي الكثيرين مِنهم كاتب هذه الكلمات، كان العكس هو الحاصل في هذا الفيلم.

قصة الفيلم التي تدور في مدينة "أوكلاند" بولاية كاليفورنيا اﻷمريكية، تحكي عن الصديقان "كولين" أسود البشرة و"مايلز" أبيض البشرة؛ صديقان مُقرَّبان منذ طفولتهُما. "كولين" خرج للتو مِن فترة سجن قصيرة، واﻵن هناك ثلاثة أيام تدريبية سيكون فيها تحت المراقبة حتى يتم تأكيد تأهيله للعودة من جديد، لكنه يكتشف في هذه اﻷيام أشياءً غاية في الـ"درامية" تحصل من حوله يتسبب فيها القدر مرّة، وصديقه اﻷبيض مثير المشاكل مرة أخرى، تجعله يمر باضطراب وشكَّ نَفسي كبير هذه اﻷيام الثلاثة للوصول إلى الخلاص.

مخرج الفيلم المكسيكي "كارلوس لوبيز إِسترادا" هو مفاجأة بالنسبة لي! هو قادِمٌ في اﻷصل من خلفية موسيقية، إذ أخرَج عشرات اﻷغاني المصورة، أشهرها ربما يكون الفيديو كليب الخاص بفرقة 'Capital Cities' اﻷمريكية بعنوان (Kangaroo Court). كذلك أخرج حديثًا في صيف العام الماضي فيديو كليب للمغني البريطاني 'George Ezra' بعنوان (Shotgun) حصد حتى اﻵن مُشاهدات تحطت المائة والخمسون مليونًا على «يوتيوب»، وهو لا يبتعد كثيرًا عن أسلوبه الموسيقي هذا بفيلمه الطويل اﻷول.

هذا فيلمًا قويًا ومن أهم أفلام سينما ۲۰۱۸ برأيي، فهو فاهمٌ جيدًا ما يريد قوله، وكيفية قول ذلك باستخدام لغة السينما. التصوير مثلًا وديناميكية الكاميرا هنا لها دور مهم، استخدامات درجات الألوان لها توظيف كبير، القصة ذاتها مبنيّة بشكل جذاب وقوي فعلًا، وقد تفاجئت أن بَطَلا الفيلم هم أنفسهم كاتِبا السيناريو.

عرض الفيلم في "صاندانس" بيناير ۲۰۱۸، وترشح لجائزة لجنة التحكيم الكبرى فيه، لكنه لم يفُز بِها.


الفيلم الثالث: The Cleaners

اسم المخرجان: موريتز ريزويك -- هانز بلوك

عمرهما: ۳۳ عام (كلاهما مواليد ۱۹۸٥)

الفيلم التسجيلي الوحيد في القائمة، وواحد من أهم اﻷفلام التي تحدثت عن اﻹنترنت مما شاهدتهم. القصة تحكي عن عملية القبول أو الرفض التي تقوم بها شركة "فيسبوك" للصور والفيديوهات، بتركيز على عاملين مقر الشركة في دولة "الفلبين".

عرض الفيلم في بانوراما الفيلم اﻷوروبي الحادية عشر بنوفمبر الماضي، وعرض في أكثر من مهرجان في روسيا وأمريكا وألمانيا.

أبرز ما نجح فيه الفيلم هو عنصر التشويق الذي قرر مخرجا الفيلم اتباعه في حكي القصة. أنتَ هنا تشاهِد عملًا مليئًا باﻹثارة والتشويق وحبس اﻷنفاس إلى أقصى حدّ. فبغَض النظر عن أهمية الموضوع ذاته الذي سيستطيع دفعك لمتابعته بشغف وتلهف حقيقي، فإن معالجته بأسلوبًا تشويقيًا يجعل من الفيلم بمثابة رحلة مغامراتية، تتكشف فيها الحقائق بشكل تدريجي (فيلمًا تسجيليًا يُحكى في صورة روائية/درامية)، ولذلك هو فيلم يبدو عليه النضج، وحقيقةً لم أتوقع ألا يكن صناعه قد قدّموا أفلامًا طويلة قبله، ربما ﻷن هذا النوع من البحث الذي قام به المخرجان يحتاج خبرة معينة في تجميع المعلومات ووضعها في شكل تتابعي درامي بنسيج واحد.

لقراءة المزيد عن الفيلم: نظرة مُقرَّبة على عالمنا الإلكتروني المُعاصِر


الفيلم الرابع: Hereditary

اسم مخرجه: آري آستر

عمره: ۳۱ عام

هذا الفيلم واحدٌ مما ينطبق عليه الوصف "يُرى ولا يُروى".. عمل أول عظيم بحق لمخرج يدعى "آري آستر" صنع عدد من اﻷفلام القصيرة قبل هذا الفيلم.

عندما قام "كريس ستاكمان" بعمل قائمته ﻷفضل أفلام عام ۲۰۱۸ في بداية السنة الجديدة، كان مستغربًا عليّ بعض الشيء وضعهُ لفيلم رعب كهذا في مقدمة القائمة. اﻵن فقط وبعد أن شاهدت الفيلم فهمت لِما اختار كريس ذلك؛ الفيلم أبعد ما يكون عن ما نعرفه لأفلام الرعب التجارية (وهذا عكس ما هو ظاهر بإعلانه الدعائي للأسف)، هو درامي جدًا وقصته سوداوية وسايكولوجية. إنه فيلم جيدٌ وعظيمٌ فعلًا بلا مبالغة، قصته مكتوبة ومحبوكة بشكل عبقري (خاصةً التأسيس القوي بالبداية، والثلث اﻷخير الذي قلقت أن يُقدَّم بدرجة أقل من الاهتمام كما عادة هذا النوع من اﻷفلام).

أصغر التفاصيل بالفيلم عليها اهتمام كبير، التصوير والمونتاچ رائعان وممتعان إلى أقصى درجة، الـ Casting مذهل. أفضل ما في الفيلم بالمجمل أنه لا ينزلق في فخ الغموض ليكون كل همّه تفسير اﻷحداث، بل يستخدم الجزئية الغامضة والمرعبة تلك لحكي حكايةً أبعد من مجرد الموجودة على الشاشة، يأخذها إلى أبعاد وطبقات مثيرة ومليئة بالجدالات، والقراءات المختلفة، تجعل من مشاهدة الفيلم مرة ثانية أمرٌ مهم.

القصة تحكي عن الموت، وعن البحث عن الخلاص. عن ما هو حقيقي وما هو تخيُّلي، عن تداعيات عدم رغبة أم بالحصول على أبناء، وعن النتائج البعيدة للعلاقات الجنسية المُحرَّمة. عن أشياء كثيرة مجتمعة في ما يشبه البوتقة الواحدة، وأفضل شيء أنها لا تتعارض بل تُكمّل بعضها، وهذا بفضل رؤية قوية، ناضجة، وعميقة جدًا من مؤلف ومخرج الفيلم القادِم من "نيويورك"، الذي بلا شك سيصبح ذو شأن كبير في قادم اﻷعوام بأمريكا.


الفيلم الخامس: Eighth Grade

اسم مخرجه: بو بورنهام

عمره: ۲۸ عام

أقل اﻷفلام في المستوى بين أفلام المجموعة، وكنت أفكّر ألّا أضمه بينهم، لكني فعلت.

هذا الفيلم جيد في أشياء، متواضع في أخرى، لكنه بالمجمل يبقى عمل جيد إلى حدٍ ما ويستحق أن يُشاهَد (ليس كما الحال في "Sorry to Bother You" الذي رغم طموحه ولطافة فكرته، إلا أنه تنفيذًا جاء متواضعًا وغير متماسِك). القصة تحكي عن "كايلا" الفتاة ذات اﻷربعة عشر عامًا التي تصنع الفيديوهات على اﻹنترنت، وهي في صفها الثامن بالمدرسة (الصف اﻷخير قبل الثانوية)، وتدريجيًا نعلم أن هناك فرقًا شاسِعًا بين التحفيزات التي تُصدّرها للناس في فيديوهاتِها، وبين حياتها الحقيقية التي تريد فيها اختبار اﻷشياء من حولها.

هذا الفيلم يملك مشتركات هائلة مع فيلم جونا هيل (Mid90s)، تقريبًا نفس الحكاية تُحكَي في الفيلمين، عدا أن الـعائلة ظاهرة أكثر في فيلم جونا هيل، والشخصيات لا تتغير طوال الرحلة. بينما هنا عائلة كايلا متمثلة في أبيها فقط الذي لا يتركها في حالها ويزعجها طوال الوقت، أما باقي الشخصيات (أصدقاء كايلا) فيظهرون ويختفون بمرور وقت الفيلم.

الجيد بالفيلم هو أنه بسيط وحكايته سهلة التواصل معها، أعجبني أن القصة تحكي عن أفكار اﻹنترنت العصرية، اﻹنترنت الذي يستخدمه الشباب تعبيرًا عن أنفسهم. وهناك مشهدًا رائعًا استخدمَ فيه الـ Dissolve بالمونتاچ. أما السلبي فهو الثلث اﻷخير من الفيلم الذي يهبِط فيه إيقاعه ويصبح فعلًا مملًا من ناحية، ومن ناحية أخرى القصة ذاتها تنتهي بشكل عادي ومقروء أفقدتني اهتمام متابعتها.

فعلًا لا أرى الفيلم يستحق أخذ هذه الضجّة الكبيرة حوله؛ هو عمل جيد فعلًا بمقاييس العمل الطويل اﻷول لمخرج في العشرينات، لكن ليس لدرجة أن يترشح لـ ۱۱۸ جائزة دولية يحصل على ٤٤ مِنها!! خاصةً وأن معظم مشاكله في السيناريو وهو يترشح لجوائز سيناريو كثيرة.


الفيلم السادس: The Guilty

اسم مخرجه: جوستاف مولر

عمره: ۳۰ عام

«تحتاج لثلاثة أشياء لصناعة فيلم جيد: السيناريو، والسيناريو، والسيناريو»

- ألفريد هيتشكوك

عندما بدأ هذا الفيلم كان هناك شيئًا واحدًا يجول في خاطري: ما الذي يُمكن أن يُقدَّم هُنا ليجعني طوال ساعة ونصف منجذبًا لفيلم يصوَّر كاملًا في مكتب شرطة؟ ﻷن الفيلم فعلًا أخذ الكثير من المدح، وكنت على عِلم أن به أفكار في تجربة صناعته تستحق التأمل. ورغم أني شعرت بقليل من الملل في الدقائق اﻷولى لنوع التجربة/المغامرة التي سأقبل عليها: فيلم يُحكى كاملًا عبر الصوت (المكالمات الهاتفية)، واﻷسلوب أو التكنيك السينمائي فيه سيتقلّص إلى الصفر تقريبًا كوننا لا نغادر مركز الشرطة طوال اﻷحداث، إلا أنني لا أنكِر استمتاعي بالفيلم بسبب قوة الحكايــة. أعتقد أن الحكاية إن لم تكن قوية فعلًا كان الفيلم ليكون كارثيًا ومملًا بطريقة خيالية!

القصة تحكي عن ضابط شرطة بالدنمارك، يعمل في قسم استقبال المكالمات التليفونية، وبينما هو في الدقائق اﻷخيرة ليوم مرهق في عمله يُفاجأ بمكالمة لفتاة تخبره أنها مخطوفة وقد اتصلت من وراء ظهر الخاطف، ليحاول فعل كل شيء في يده ﻹنقاذها. هذا ما تقوله لنا القصة عندما نقرأها قبل أن نكتشف أشياء مختلفة ومتعددة بالفيلم حين نشاهده.

هناك فعلًا أناس لن يطيقوا مُشاهدة فيلم تدور أحداثه كلها في مكان واحد مهما بلغت قوة القصة؛ ﻷن الفيلم ليس من المفترض أن يقتصر على قصةً ما تحكى، وإنما هناك أكثر من ذلك. على أي حال هذا الفيلم فَعَل كل ما يمكن أن يجعله قوي ومؤثر.. نوع الحكاية ذاتها -التي تعتبر أقرب للحكايتان المتجاورتان- هي التي اختارت تصوير الفيلم بهذه الطريقة وليس العكس. المونتاچ واستخدام الـ Zooming يدرّس في هذا الفيلم، الفيلم بأكمله مبني -أسلوبيًا- على عناصر بسيطة للغاية، لكنها موضوعة في محلها تجعلها تخدم الـ"قصة" المكتوبة بشكل قوي.

ربما النقطة الوحيدة التي قللت من استمتاعي بالفيلم -وهي نقطة شخصية- أني شاهدتُ مسبقًا فيلم المخرج ستيـڤِن نايت (Locke)، والفيلمان متشابهان في إطارهم العام لبعض: قصةً نعلم كل شيءٍ عنها عبر الهاتِف، ومفارقة مصيرية عند البطل، تجعل من هذه الليلة "درامية" جدًا عنده؛ ليلة ستقلب حياته، ولن يخرج منها وهو نفس الشخص أبدًا بعدها.

لكن بعد كل هذا اﻹبهار على صعيد القصة، وطريقة حكيها لنا بأقل اﻹمكانيّات البصرية، يبقى الفيلم بالنسبة لي لمُشاهدة واحدة فقط، لن احتمِل مشاهدته مجددًا أبدًا! وهذا شيء ربما يجعلنا نتأمل قليلًا مقولة المخرج اﻹنجليزي الشهير "ألفريد هيتشكوك" أعلاه، ونسأل أنفسنا: ما الذي يحصُل في حالة اهتم المخرج بالقصة بالكامِل، بحيث لا يوجد في الفيلم سوى القصة (؟!)


الفيلم السابع: Wildlife

اسم مخرجه: بول دانو

عمره: ۳٤ عام

"Wildlife" هو من هذه اﻷفلام المبنية بشكل كلاسيكي للغاية (بداية - وسط - نهاية)، وقد صوّر بنوع من الكاميرات ﻹعطاء إحساسًا شاعريًا للحكاية التي تدور أحداثها بفترة الستينات بإحدى الولايات اﻷمريكية.

كان هذا الفيلم قريب من أن يصبح أحد مفضلاتي في العام لولا ظهور بعض السلبيات في نصفه الثاني التي منعت ذلك. القصة تحكي عن عائلة من ثلاث أشخاص؛ "چوي برينسـون" فتىً في بداية فترة بلوغه، يلاحظ التغييرات الناتجة على أبواه جرّاء مشاجرة كلامية بينهم بسبب عدم رغبة اﻷب بالعودة إلى وظيفته بعد فصله، فيقرر -اﻷب- الذهاب إلى البرية للعمل في تطفئة حرائق الغابات. على الجهة اﻷخرى تغضب اﻷم بشدة، وتشعر أنها أصبحت تائهة في حلقة كبيرة، لتجد نفسها قد مالت إلى رجلًا آخر أثناء غياب زوجها. وبينما كل هذا حاصل حول عيني چوي الذي يلاحظ الموضوع ولا يعقّب عليه كثيرًا، يصبح هوَ بمثابة "نصيرنا" في النظر لقصة هذه العائلة التي حَكَم عليها القدر بالتفكُّك.

الفيلم جميل للغاية في أسلوبه؛ الاهتمام بدرجتي اﻷزرق والسماوي في نصفه اﻷول، والبني والبرتقالي في الثاني يعطيان حالة سيكولوجية مفهومة جدًا للتغير الحاصل على جميع الشخصيات. الديكور كان مؤثرًا وجميلًا، التصوير كذلك وقت الغروب والشروق: بالصباح الباكر تحت أشعة الشمس، ثم في المساء على ضوء اﻹنارات الليلة والسماء الزرقاء الفاتحة. هذا فيلمًا "يبدو" في شكله جميلًا وجذابًا، وسيروق ﻷي شخص يحب اﻷفلام التي تكثر بها درجات اﻷلوان واهتمامًا خاصًا بالسينماتوغرافي. أما على صعيد الدراما، فـ"بول دانو" قدم أداءًا رائعًا بهذا الفيلم اﻷول له.

لعل السلبية الحقيقية الوحيدة هي عدم تشبُّع شخصية الصبي بما يأتي منها تبريرًا لعلاقته مع أمه ولماذا تركها بكل بساطة كي يحصل عليها رجلًا آخر، خاصةً حينما تفكّر أن اﻷشخاص المنطوية مثله تأتي عليها فترة تنفجر وتُخرِج كل ما فيها (مثلًا؟)، وهذا ﻷن القصة بالكامل تأتينا من عين الصبي في اﻷصل. شعرت أن هناك جزءًا مقتَطَعًا لم يظهر بالفيلم كان يجب الظهور. لكن غير ذلك فالفيلم ممتع ومتماسك، ذو قصة قوية تستحق الاستمتاع بها.


الفيلم الثامِن: Searching

اسم مخرجه: آنيش شاجانتي

عمره: ۲۸ عام (مواليد ۱۹۹۱)

بالنسبة لعدد من الناس، فإن "Searching" هو مفاجأة عام ۲۰۱۸، والطريف في الموضوع أن مخرجه صغير السن جدًا!

بالنظرة الانطباعية اﻷولى: المميز بالفيلم هو أنه قَصَد التعمُّق في ما يمكن للسينما أن تحمله من سرديات مختلفة؛ فصوّر الفيلم بالكامل من شاشات الحواسيب والهواتف الذكية ونشرات اﻷخبار، كما لو كنت "فعلًا" تتابع فيلمًا تقريرًا على التلفزيون، لكنه مبني بشكل درامي جدًا.

القصة تحكي عن أبٍ يتفاجأ أن ابنته الوحيدة اختفت، فيعتقد أنها اختُطِفَت، ربما هربت؟ يخبر الشرطة وتبدأ علمية البحث عنها ويتصفح حساباتها على اﻹنترنت، ليُكتَشف منعطفات درامية حادة في القصة تنتهي على ما سوف تنتهي به!

ربما إن شاهدت الفيلم ستكون واحدًا من اثنين: إما أن تعجبُكَ قصة الفيلم، مع أسلوب عرضها، وستكون مِن هؤلاء الذين انبهروا بالفيلم. وإما ستُقدّر عمل طاقم الفيلم على طريقة عرض القصة وخلق "تشويقًا" حقيقيًا بالمونتاچ وتقنيات الحاسوب، لكن القصة لن تهمك وستجدها عادية جدًا وغير مشوقة (أنا ضمن هؤلاء). لكنك من صعب فعلًا أن تخرُج من الفيلم كارهًا الاثنين؛ ﻷن هذا اﻷسلوب اﻹنترنتي/الرقمي في عرض قصة فيلم روائي طويل ربما نستطيع الاتفاق أنه لم يقدّم في السينما -بهذه القوة- من قبل، وهي بالمجمل تجربة مثيرة جدًا للاهتمام، خاصةً عند القراءة عنها وعن عمليات وكيفيات التصوير.

هناك فيديو رائع على اليوتيوب بعنوان (Editing A Low-Budget Blockbuster) ينظر عن كثب لعملية المونتاچ في الفيلم التي قام بِها شابان في منتصف العشريات من عمرهما.

.

.

رغم أن هذه اﻷعمال الفيلمية المذكورة في المقال هي اﻷولى لمخرجينها، وهي فعلًا جيدة تستحق إعطاء فرصةً لمشاهدتها وتُنبئ بجيل جديد من المخرجين (بالذات آري آستر، مخرج Hereditary..!') إلا أن هذه ليست بقاعدة أبدًا؛ معظم المخرجون الِكبار لم يتألقوا إلا بعد صنع عدد من اﻷفلام اﻷولى المتوسطة جربوا فيها حكي القصص بهذا الوسيط المقعد (فن السينما)، ثم بدأوا باكتشاف أنفسهم، واكتشاف أسرار وخواص الوسيط وفن الحكي بالصورة، وما يمكن تقديمه فيه حيث لا يمكن أن يقدّم في أيًا من الفنون اﻷخرى. هناك مخرجون تتعجّب كيف وصل بهم اﻷمر لهذا النضج السينمائي السريع باﻷعمال اﻷولى لهم (أشهرهم بالنسبة لي تاركوفسكي في "Ivan's childhood"، تارنتينو في "Reservoir Dogsستيڤِن سبيلبرج في "Duel" وجميعهم مخرجون كانوا بالعشرينات حينها، وأيضًا فيلم بول توماس أندرسون الثاني "Boogie Nights" الذي صنعه في سن السابعة والعشرون)، وهناك آخرون كان من الضروري عليهم صناعة أفلام متواضعة -ورديئة بالنسبة لهم- ليُكوّنوا أسلوبهم المتفرد الخاص، وليستطيعوا اﻹجابة على هذا السؤال المعقد الذي لن تأتي إجابته بسهولة: لماذا تريد صنع اﻷفلام؟ وماذا تريد تقديمه في السينما؟




تعليقات