فيلم توشريت.. سجال بين الفني والإعلامي

  • مقال
  • 09:16 مساءً - 19 سبتمبر 2022
  • 17 صورة



فيلم توشريت.. سجال بين الفني والإعلامي

ليس غريبًا على من يشرع في صناعة فيلم تسجيلي/ وثائقي هذه الجدلية؛ فبينما يدرك أن عمله يختص بصفات إعلامية، يعرف أيضًا أنه يصنع فيلمًا، والفيلم –أي فيلم- هو عمل فني قبل كل شيء.

العمل الإعلامي يسير في اتجاه واحد، رسالة تعبر من منتِج الرسالة إلى مستقبلها عبر وسيلة ما.. منتج الرسالة يضع في اعتباره أن المتلقي ساذج للغاية، ومن ثم على الرسالة أن تكون بسيطة جدًا، مباشرة إلى أبعد الحدود، أما في العمل الفني فيكون لدينا مضمونٌ مبنيٌّ على وجود الموضوع والشكل، وتأويلات لا حصر لها، فالمتلقي هنا جزء من العمل الفني يثريه من خلال ثقافته بأفكاره فيكون سير عملية الإنتاج الفني مزدوج الاتجاه؛ فإذا كان كلٌّ من العمل الإعلامي والعمل الفني يسيران متوازيين.. لا يلتقيان أبدًا رغم تجاورهما في هذا النوع الفيلمي، يصبح على صانع الفيلم التسجيلي همًّا.. كيف يوازن بين هذا وذاك فيعبر بهما دون تغليب مسيء لأحدهما ودون أن يقع في الفخ فيخسرهما معًا. صناع فيلم (توشريت أرض الجدب) واجهوا هذه المعضلة وحاولوا تخطيها بسلام.. فهم -كدارسين للإعلام يصنعون مشروع تخرجهم- كان عليهم أن يقدموا رسالة واضحة جلية من خلال فيلمهم، وفي نفس الوقت كشباب لهم طموحاتهم الفنية أرادوا صناعة فيلم يعيش طويلًا أبعد من مجرد العرض في الجامعة والحصول على تقدير مناسب يضمن لهم التخرج، فالفن نفَسُه طويل وعمره كالسيرة أطول من عمر صاحبها.

ليوفِّي الفيلم بُعدَه الإعلامي لم يكن عليهم إلا أن يضعوا رسالتهم بشكل مباشر على ألسن المتحدثين، سيناء أرض السلام، أرض الله، تتمتع بالهدوء والسكينة، أرضها مباركة غنية بالأعشاب الطبية وهواؤها يشفي العليل وما إلى ذلك، أما ليستوفي الفيلم بعده الفني قرروا الخوض في غمار التجربة من خلال تقنيات وأساليب فنية يمكننا استجلاء بعضها فيما يلي:

الغموض والمفارقة:

مع الاسم الذي يبدو غريبًا لأي شخص معاصر، لأنه منتزع من كتب التاريخ (توشريت) يبدأ الغموض المشوق، وبتفسير معنى الاسم تبدأ المفارقة؛ فبينما المعنى الحرفي للاسم هو أرض الجدب بما يعطيه هذا من دلالات سلبية: الأرض القاحلة، لا ماء، لا حياة، خطر محدق بالعابرين فضلا عن المقيم، رغم ذلك يكتشف الفيلم أنها (سيناء) كانت ومازالت ولازالت أرضًا للجذب، وربما كان جدبُها سر جذبِها، فلأنها نفت عنها ونفرت منها الخبثاء من البشر، والضواري من الوحوش؛ كانت وطنًا للودعاء والحالمين.. المتعبدين والنساك وأهل الله من كل لون وأصل ودين، بل حتى الأعشاب الطبية الطيبة استوطنتها ووجدت فيها ملاذا تُعَزّ فيه ولا تَعِزُّ عن أهله. تستمر المفارقة من خلال السرد السينمائي الذي اعتمد على أربع حكايات لأربع شخصيات وحكاية واحدة حاكمة هي حكاية الشيخ البدوي أحمد منصور الذي يبدأ الفيلم بلقطات له دون كشف عن هويته ثم يختتم بحديثه، فهو محور الفيلم لأنه الوحيد الذي لم يأت من خارج سيناء، وهو ربما لذلك الوحيد الذي لا تشمل حكايته تحولًا، التحول الوحيد في حياته كما يروي هو يكمن في فرصة السفر إلى الإمارات بدعوة من كبيرها الشيخ زايد رحمه الله، والذي ذِكر اسمه وحده يوحي بالرخاء الذي كان ينتظر البدوي السيناوي طبيب الأعشاب الذي رفض المغادرة مهما كانت المغريات، فكيف يغادر أرضًا سلوكها الجذب.

يتفرع الفيلم إلى أربع حكايات لأربعة أشخاص، كل حكاية تحوي مفارقة غيرت مسار حياة صاحبها، ودفعته إلى الإقامة في سيناء وتحديدًا منطقة كاترين:

الإماراتي إبراهيم أبوسالم، الذي ترك مجاله في هندسة الطيران لينشئ مزرعة للنباتات العضوية هنا.

الإنجليزي Ben Hoffler الذي ترك عمله في إحدى الشركات الكبيرة التي تعمل في البحث عن الذهب الغارق، ليستقر في سيناء، يؤلف كتابًا ويرسم طريقًا فيها للعابرين والمجذوبين لقوَّتها ويسميه درب سيناء.

الشابة المصرية زهرة مجدي، التي جاءت في رحلة سياحية ثم قررت ترك مدينتها لتبدأ حياتها بمشروع خاص بها في كاترين، ليس بعيدًا عن مجالها الذي هو دراسة الأعشاب الطبية، لكنه بعيد عن مسقط رأسها حيث –ربما- لم يتخيل أحد سواها أن تعيش بعيدًا عنه.

الألماني Bernard Etitelgoerge أو Cosmos الذي جاء يلتمس طريقًا إلى محل ميلاد المسيح عليه السلام في القدس لكن السلطات الإسرائيلية تمنعه فيرتد ولا يرغب في العودة إلى بلده.. لقد جذبته سيناء ليستقر فيها ويكمل ما بقي من حياته، كما يقول.

حكايات كل منها كفيل بإنتاج فيلم مستقل عنها، لكن صانع الفيلم هنا يضفرها في مونتاج متوازٍ حيث جدلية القطع بين القصص الأربع التي تسير معًا حتى تعيد تسليمنا إلى القصة الرئيسية التي هي قصة حكيم سيناء أحمد منصور.

الحنين:

مخاطبة الحنين أو ال(نوستالجيا) هي إحدى التيمات التي تنجح دائمًا في دمج المتلقي مع الفيلم، فكما يتفق كثير من الفلاسفة والمحللين النفسيين أن الإنسان، بل والموجودات جميعًا، تميل للعودة إلى أصولها، والطبيعة هي الأصل الذي خرجنا جميعًا منه فتتوق نفوسنا للعودة إليها. فيلم توشريت يعطينا هذه الفرصة في دقائق معدودة، أقل من خمس عشرة دقيقة هي مدة الفيلم، نعود فيها مع قصص العائدين إلى الطبيعة البكر ونتأمل من خلال لقطات متسعة هذا البراح الذي يجعل جذورنا تتنفس إحساس الطزاجة، لكن ربما كان التزام المونتير والمخرج بمدة محددة للمشروع والتزام فريق التصوير بزمن معين لإنجازه، سببًا في اختصار مساحات التأمل، حتى أنهم في لقطة تظهر السحاب مع الجبال تكسوها الأشجار يختارون أن يسرِّعوها لتظهر السحب تلهث فتصدم المتلقي وتخرجه من حالة التأمل، لكن هي فيما يبدو الضرورة، وللضرورات أحكام.

حالة النوستالجيا تلك بعثها في نفسي وجه الشيخ أحمد منصور الذي افتتح الفيلم به، شيء ما جعل وجهه يبدو لي مألوفًا، في البداية قلت إنها قسمات وجهه الطيبة وابتسامته المريحة المتفائلة، لكن ليس ذلك فقط، فلم يكن من الصعب استرجاع صورته من الذاكرة واكتشاف أنه هو نفس الشخص الذي رأيناه بطلًا لفيلم وثائقي يحمل اسم (حكيم سيناء) صنعه منذ سنوات عديده المخرج ومدير التصوير المعلم علي الغزولي، ونتعجب من أن الملامح هي نفس الملامح والعمر مجرد رقم في الملفات الرسمية، كأن ذلك إثبات عملي لقوله أن مَن يعِش في هذه الأرض يسترِح "نفسيًا وعصبيًا وعقليًا.. لا تخاف فيها، ولا تقلق فيها، ولا تهمم فيها، ولا تعيا فيها كمان".

تيمة البحث واكتشاف الذات:

القادمون الأربعة يفدون إلى سيناء كجزء من رحلتهم لاكتشاف الذات واستكشاف العالم أو البحث عن الله، موضوع لا يُمَل أبدًا. طالما هناك أطفال جدد يولدون كل يوم ومراهقون يخرجون من البيضة –كما يقال- لتنسم هواء العالم، سيبقى هناك من تسحره هذه التيمة ويشده هذا الموضوع لمشاهدة الفيلم سواء كان وثائقيًا أو روائيًا، أضف إلى ذلك حالة صوفية أضفاها المكان بتاريخه كمعبر للرسل وأرضٍ للتجلي، وتجلٍّ للرحمات.

البعد البصري:

اعتمد الفيلم بصريًّا على عنصرين رئيسين: استخدام العدسات المتسعة التي تكشف مزيدًا من المسطحات (اللاندسكيب) وتسمح بزيادة عمق مجال الوضوح Depth of field؛ فتؤكد بذلك سطوة المكان وسلطانه الجاذب على كل المتعلقين به، والكاميرا المتتبعة التي تتحرك دائمًا خلف شخوص الفيلم كأنها رغبة من صانع الفيلم في اكتشاف عالمهم، أو السير في أثرهم كما يخطو المريد حيثما انطبع قدم شيخه، مما يؤكد بصريًا تيمة الاكتشاف ويؤكد الانبهار بعالم خصب جديد يتابعه المشاهد ولا يرغب أن تفوته منه فائتة.

من الواضح طبعًا أن الإمكانيات الإنتاجية لم تتح لفريق العمل مزيدًا من عناصر التحكم البصري، فقد استخدموا ضوء النهار العادي، لا إضاءات تكميلية ولا عواكس ولا حتى إمكانية الانتظار وتخير أوقات النهار المناسبة لزوايا التصوير، وهو أمر ليس غريبًا في مجال الأفلام التسجيلية خاصة إذا كنا نتحدث عن إنتاج محدود، لكن ذلك لم يمنع أنهم استطاعوا الاستفادة بالمتاح، وإبراز جمال المكان، وتأمله بشكل يحقق مضمون الفيلم الذي يدور حول قدرة المكان، أرض سيناء، على الجذب الذي يعارض مسماها المرتبط بالجدب.




تعليقات