أومبرتو دي .. لا مكان لكبار السن

  • مقال
  • 11:46 مساءً - 24 مارس 2023
  • 6 صور



صورة 1 / 6:
صورة 2 / 6:
صورة 3 / 6:
صورة 4 / 6:
صورة 5 / 6:
صورة 6 / 6:

قد يوحي العنوان أن الحديث في هذا المقال سيجمع بين فيلمين، Umberto D و No country for old men، إلا أن الأمر فيه مصادفة بحتة جعلت العنوان يأخذ هذا الشكل. فبطل فيلم أومبرتو دي إخراج فيتوريو دي سيكا منحني هذا الشعور قرابة الساعة ونصف. فإيطاليا ما بعد الحرب العالمية لم تعد تقبل كبار السن، إذ صاروا عبئـًا عليها. ورغم نعومة السرد السينمائي الذي قدمه دي سيكا مع ممثله غير المحترف كارلو باتستي، إلا أن هذا الشعور بالثقل الذي أرهق (أومبرتو) وصلني خلال كل الأحداث. كما أن (باتستي) الذي لم يكن وجهــًا إيطاليـًا مألوفـًا بالنسبة لي، جعلني متعاطفـًا جدًا مع قصته، ولم أشعر لحظة أنه هذا النجم المتصدر قلب الشاشة، بل شعرت أنه ذلك الشيخ الذي يعاني فعلًا من ضائقة مالية واحتياج يهدد استقراره وحياته التي لم يعد فيها الكثير داخل بلد لا تُقدر الكبار في السن. وربما يكون ما وصلني من مشاعر حقيقية تجاه الحكاية أنجح ما فيها، فالحكاية تبدو تقليدية والتطورات في الأحداث غير ضخمة بالمعنى الهوليوودي، إلا أنها كانت حقيقية وصادقة إلى أقصى درجة، سينما تقترب من مساحة السينما التسجيلية. أومبرتو وعلاقته بكلبه (فلايك)، أجبرتني على التركيز والترقب، ظللت أتساءل ماذا سيحدث لهذين الرفيقين في النهاية؟ وأصبتُ برجفة عندما كاد أومبرتو يقتل نفسه حين جاور قضبان القطار وهو يحمل الكلب في يده. مشهد يلخص أزمة الشيخ الذي لا يريد شيئـًا ممن حوله سوى الرحيل دون أن يعلم عنه أحد شيئـًا، لكن كلبه أبى أن يحدث ذلك. جماليات أفلام دي سيكا عندي تكمن في عاديتها، وليس إبهارها. فقصص أفلامه التي شاهدتها لا تختلف عن حكاية أومبرتو وكلبه، فأفلام (لصوص الدراجة)، أو (عباد الشمس) أو (امرأتان) تسرد حكايات أشخاص غاية في العادية، قد تلتقي بهم كل يوم دون أن تلحظ شيئـًا مميزًا في ملامحهم أو شخصياتهم أو طرق حياتهم .. أشخاص يشبهوننا لدرجة تجعلهم لا يتركون في أذهاننا صورة راسخة، لكن المشاعر التي نحس بها تجاههم تظل باقية، وهذا ما شعرت به تجاه أومبرتو وفلايك وغيرهما من شخصيات فيتوريو دي سيكا، حتى لو كنت قد شاهدت الأفلام منذ سنوات. هذه العادية التي يرسم بها دي سيكا شخصياته تعد انطباعــًا عن رؤيته يقترب بشكل أو بأخر إلى المدرسة الانطباعية التي ترى العالم من رؤية الفنان في لحظة ما دون أن يكون ضروريـًا أن يكون هذا الواقع كما يراه الآخرون. ولا أعني هنا المدرسة الانطباعية الفرنسية في السينما بالضرورة، لكنني أميل أكثر للمدرسة الانطباعية في التصوير. وأومبرتو مثل كلبه، كلاهما منبوذان، لا يقبلهما أحد، وإن تقبلهما شخص ما، فالمال سيكون محركـًا أساسيـًا لهذا الشخص. فصاحبة النُزل الذي يسكن فيه أومبرتو لم تكن سوى امرأة متصنعة، تحاول أن ترتدي لباس الرقة واللطف والحس المرهف وهي تشدو بصوتها لأصدقائها، لكنها لا تُظهر أي شيء من هذه الرقة في علاقتها رجل طاعن في السن لا يقدر على دفع إيجار غرفته. نفس الأمر حدث مع فلايك الذي حاول أومبرتو أن يضعه بين يدي أسرة تهتم بالكلاب وترعاهم، لكنهما أرادا مالًا كثيرًا، ولم يشعر أومبرتو أن هذه العائلة ستولي فلايك حق الرعاية. ولأن فلايك لا قيمه له في بلد لا ترى للكلاب قيمة كذلك، فوجوده في الشارع لن يُواجه غالبـًا سوى بالموت، إذ يتم اصطيادهم وقتلهم في جمعيات الحيوان. خلال أحداث الفيلم لاحظتُ الحس الوثائقي ظاهرًا في الفيلم سواء في مشاهد تصوير المدينة، وحركة البشر والسيارات. فمنذ اللقطة الأولى في الفيلم ولقطات التظاهرة الخاصة بالرجال المحالين على المعاش تجلى فيها شخصية الفيلم التسجيلية.

كما ظهرت لي ملامح ما بعد الانطباعية عندما كنت أشاهد غرفة أومبرتو، وكانت لوحة فان جوخ الشهيرة (غرفة نوم في آرل) تتبادل المكان -داخل عقلي- مع هذه الغرفة الصغيرة.

أحد المشاهد التي أراها في غاية التميز داخل الفيلم، مشهد استيقاظ مارية من نومها وجلوسها في المطبخ لبضعة دقائق. هذا المشهد الصامت الذي استمر لحوالي أربعة دقائق، رغم واقعية تفاصيله إلا أنه بدا سرياليـــًا لي، وشعرت أن مارية داخل عقلها، وكأنها في حلم، تحاول التحرر مما يقيدها، وتجلت هذه المحاولة عندما أرادت غلق باب المطبخ بأطراف أصابعها.

ورغم أن الفيلم في كثير من تفاصيله اعتمد على إضاءة مرتفعة (High key) لم تجعلني أشعر بهذا الضيق الذي يسيطر على بطل الفيلم، إلا أن هذا تحول إلى النقيض تمامـًا مع شعور أومبرتو باليأس من حياته ومحاولة التخلص منها، فظهرت بعض ملامح المدرسة التعبيرية في المشهد الذي فكر فيه أن ينتحر، وجاءه إلهام الموت عبر صوت عربة الترام في الليل، فكانت اللقطة المقربة لوجه أومبرتو والإضاءة المنخفضة التي تسيطر عليها الظلال، تدليلًا على هذه المشاعر.

هذا المشهد أيضـًا تظهر فيه نظرية المونتاج السوفيتي حيث المونتاج الذهني، فنحن نشاهد وجه أومبرتو في لقطة مقربة، ثم لقطة تالية للطريق والترام يمر على القضبان، ثم لقطة ثانية لانفعال جديد يظهر على وجه البطل، مع زوم على أرضية الشارع، ليخبرنا المخرج أن الرجل يفكر في الانتحار.

ناهيك عن الزمن في الفيلم الذي شعرت به منذ اللحظة الأولى مع دقات جرس الكنيسة، وكأنها تقول إن نهاية أومبرتو قد اقتربت. وظهرت علامات هذا الزمن الذي يلاحق أومبرتو، أو بمعنى أدق يحاول أومبرتو أن يتخلص منه بالانتحار، في لقطة المنبه القابع إلى جانبه قبل رحيله من النُزل إلى غير رجعة، أو محاولته أن يوقف رناته المزعجة في قلب الليل الطويل الذي يحاصره في مشهد آخر. ولا أعلم لماذا شعرت بسريالية هذا الزمن في الفيلم؟ ربما لأنني تذكرت لوحة سلفادور دالي الشهيرة (إصرار الذاكرة).

اغتراب أومبرتو عن العالم، ومحاولته الانتحار، فيها ملمح سيريالي جسدته تصورات رينيه ماجريه كثيرًا، ويظهر ذلك في زي وشكل أومبرتو، وإن لم يكن مقصودًا، لكنني عندما عدت لمشاهدة أكثر من لوحة لماجريه ترسخ لدي هذا الشعور، فالرجل ذو القبعة الذي تكرر كثيرًا في أعمال ماجريه بدا وكأنه أومبرتو دي.

وصلات



تعليقات