باب الشمس : ملحمة بلا أبطال

يعود يسرى نصر الله مع فيلمه الجديد باب الشمس و قد تغير كثيراً، فبدلاً من تلك الفورة التى شاهدناه عليها فى فيلمه السابق المدينة، نجد أنفسنا هنا أمام رجل أربعينى خبير بدروب الحياة يقص علينا فى هدوء وحكمة، يعرف تماماً متى يبطيء فيفسح لنا الوقت لفهم ما يقول، ومتى يسرع ليجعل قلوبنا تقفز مع كلماته، أو بالأحرى مشاهده ولقطاته، باب الشمس هو الثمرة التى ارتوت قطرة.. قطرة، ونضجت فى ثلاث سنوات كاملة، واكتمل فيها ما كان قد نقص مما سبقها. تدور أحداث الجزء الأول الرحيل من باب الشمس، حول قصة طرد الفلسطينيين من أراضيهم وتهجيرهم إلى لبنان فى أربعينات القرن الماضى، وهنا يجد يسرى نصر الله أمامه ماده خصبة يقوم بتشكيلها لينسج هذا الثوب الرائع، وكما أن فى بلاغة اللغة ما يسمى بالتجاور اللفظى الذى يخلق المفارقة بين نقيضين، يخلق نصر الله تجاوراً بصرياً بين مشاهد المذابح التى تمتليء بأكوام الجثث ورائحة الموت، والمشاهد التى تسبقها فى حقل الزيتون ساعة الحصاد، و بين أشجار تتمايل وأطفال تمرح يخرج يسرى مشهداً بهيجاً مليئاً بالسكينة والبراءة، يخلق ابتسامة مطمئنة على شفاه المتفرجين، تصبح بعدها صرخة الفزع أكثر تأثيراً و أشد إيلاماً، ويبدأ الرحيل، سير على غير هدى، أزيز رصاص، وأصوات لا نرى أصحابها تنعق فى مكبرات الصوت.. إلى الشمال، اتجهوا نحو الشمال.. هذه المناطق ممنوع تواجد العرب فيها على أحد التلال فى شمال فلسطين، بعيداً عن القرية الأم، تسأل نهيلة التى صارت أماً الشيخ ابراهيم أن يعلمها شيئاً جديداً فينشدها: نقل فؤادك ما شئت من الهوى، يختنق صوت الشيخ وهو يتذكر المنزل الأول فى مسقط رأسه، لكنه بعد قليل يمازح زوجة ابنه عندما تسأله كيف تعرف أوقات اليوم وأنت لا ترى، فيغافلها ويقيم صلاته متوجهاً إلى القبلة رافعاً صوته الله أكبر ليقطع عليها طريق الأسئلة، هكذا يحافظ يسرى دائماً على ابتسامة خفيفة تسرى فى كثير من مشاهد الفيلم رغم صعوبة الموضوع و ورغم حساسيته، هذه البسمة تتيح للمتفرج التفريج عن توتره من آن لآخر وتجعله مستعداً مرة أخرى لمتابعة المزيد عن الحكاية التى نعرف جميعاً فصولها المروعة عى أرض الواقع، هذا التوازن الذى صنعه المخرج و كأنه يمشى بمهارة على خيط رفيع أنقذ الفيلم من قتامة لا تحتمل ربما كان يتسبب فيها لدى المشاهد العربى تحديداً هذه الدرجة الفائقة من التماهى مع الشخصيات التى يصدرها الفيلم، إننا فى الحقيقة نشاهد أنفسنا، تاريخنا، وربما لحظتنا الحاضرة أيضاً، لكن الأهم من تلك الابتسامة هو أن نصرالله و محمد سويد و إلياس خورى كتاب السيناريو لا يروون مأساة فلسطين، إنهم يحكون ملحمة شخوصها ليسوا أبطالاً، إنهم مجرد ناس عاديين لا يستطيعون سوى أن يمارسوا حياتهم و يحبوا ويتزوجوا حتى لو كان المدفع الصهيونى مصوباً إلى رؤوسهم، حتى يونس المناضل لم يكن بطلاً بالمعنى الأرسطى، بل كما يهمس الدكتور خليل فى أذنه كنت بطلاً لأنك كنت عاشقاً كانت قصة حبه مع نهيلة هى ما جعلت من يونس بطلاً، وليس البارود و البندقية، و كانت قصة يونس مع نهيلة هى المستوى الثانى للحكى فى الفيلم، لكنه مستوى لا يقل أهمية عن الأول، بل يرتبط به كما يقرر يونس نفسه: الوطن مثل الحب، شيء عميق تقع فيه من غير ما تحس، و تبدأ فصول العشق فى الملحمة عندما يصل يونس إلى جنوب لبنان حيث تعيد المقاومة ترتيب أوراقها بينما تذهب الأسرة إلى دير الأسد للإقامة عند أقارب الشيخ ابراهيم، يتسلل يونس إلى امرأته تحت الظلام فتأخذه من يده إلى مغارة قريبة تسمى باب الشمس ليتخذا منها سكناً للحب، فى باب الشمس يتزوج يونس نهيلة من جديد تفرش بالورد السرير، تضيء شمعة وتتعطر، وتعلو فوقهما موسيقى رعوية تملأ المكان سحراً بينما هما يمارسان الحب، هذه المشاهد هى النشوة التى يصل إليها يسرى نصرالله وهو يستمتع بما ينجز ويعايشه، إنها لقطات يطلق فيها عنان مشاعره لا أفكاره لتجلب معها الانسجام و الجمال المطلق بلا هدف سوى الجمال فى ذاته، وكما كان بناء الفيلم على مستوى السيناريو و على المستوى البصرى بناء كلاسيكيا، كانت هذه المشاهد أيضاً، لكن يسرى يجمع فيها كل جزالة الكلاسيكية، وتألقها وفخامتها، ويقدمها ببساطة شديدة دون أية محاولة لتفلسف لا مبرر له، لا تكاد الأيام تصفو لنهيلة وزوجها حتى يعكرها موت طفلهما الأول بعد أن تتركه قوات الاحتلال ينزف من رأسه، ثم تقف نهيلة وسط القرية تخبر جيرانها أنها حامل للمرة الثانية، وأنهم جميعاً يعرفون من هو أبو أبنائها و يعرفون أنه بطل. تختتم ريم تركى أو نهيلة مشاهد الجزء الأول من باب الشمس بعد أن استطاعت أن تنقل الشخصية التى تؤديها من خفة الصبية المتمردة إلى ثقل المرأة الناضجة، زوجة المناضل، كانت الرحلة التى قطعتها نهيلة من البراءة و الانطلاق إلى الخبرة والنضوج واضحة فى عينى ريم تركى إذا ما قارنا مشاهدها الأولى فى حقول الزيتون بمشهد التحقيق الأخير، كانت امرأه تحمل نفس الملامح لكنها أصبحت من الداخل مختلفة تماماً، فى ذلك المشهد كانت تحمل بين ملامحها آلام الرحيل، وخبرة الجسد، وحزن الفقد، وإذا كانت الدراما قد خلقت ثنائياً هو نهيلة ويونس فإن الثنائى الذى شد و جذب و تبارى فأمتع و أقنع، فكان بين ريم ومحتسب عارف أبو يونس لقد جعل عارف من الشخصية محل تعاطف جارف، دون أن يفقدها احترامها، كان هو الأكثر حضوراً على الشاشة حتى أننا افتقدناه عندما ندرت مشاهده فى النصف الثانى من الفيلم، إلى جوار حضوره الهائل يبدى عارف فهماً لا أظننى أتجاوز إذا أسميته عبقريا لفن رد الفعل فى المشهد الذى يتعرض فيه للصفع على يد ضابط يهودى، وبدلاً من أن يلقى عارف برد فعله الذى يفترض أن يحمل كل الألم والقهر الذى تشعر به الشخصية فى تلك اللحظة، يمتص هو فعل الضرب، و يقلص رد فعله تماماً حتى يساوى الصفر، ويعدم كل صادر عنه فيصبح مثل رجل ميت يتلقى الصفعات، ليكون هذا المشهد درساً لمن يشاء من أهل التمثيل ليعرف متى يعطى ومتى يمنع، و كيف أن هناك لحظة لابد أن يحجب الممثل فيها تعبيره لا أن يحاول إظهاره، لقد كسب عارف بأدائه عموماً، وفى هذا المشهد خاصة، أضعاف ما كان يمكن أن يكسبه للشخصية -وله أيضاً- من حب لو كان قد فعل ما هو مطروق ومعتاد، و الأكيد أنه لم يكن الوحيد الذى أعطى درساً فى هذا الفيلم الذى لا يوفيه مقال مهما كانت مساحته، بعد أن شاهدت الفيلم قالت لى صديقة لبنانية أنها كانت تنظر إلى الأرض من الخجل أن يكون هذا هو تاريخنا، فقلت: أنا كنت أشعر كأن عنقى يطال السماء وأنا أشاهد الفيلم لأن الواقع المصرى -على ظلاميته- ما زال قادراً على أن يفرز مخرجاً يصنع فيلماً مثل باب الشمس، ولابد من كلمة تقدير لرقابة واعية و أمينة فى لحظة غاية فى الصعوبة.

نقد آخر لفيلم باب الشمس: الرحيل

عنوان النقد اسم المستخدم هل النقد مفيد؟ تاريخ النشر
باب الشمس : ملحمة بلا أبطال ضياء أبواليزيد ضياء أبواليزيد 1/1 24 اغسطس 2010
السينما كما يجب أن تكون Ahmed Shawky Ahmed Shawky 4/4 29 نوفمبر 2008