نادي القتال .. عندما تنتصر السينما على الرواية

سأحاول أن أكبح جماح تدفق الأدرنالين في عروقي -رغم عشقي لنشوة هذا التدفق- وأنا أكتب عن هذا الفيلم، اللعنة! أنا لم أدرك حتى وقت كتابة هذه السطور، ولربما بعد ذلك، أني أكتب عن أفضل فيلم شاهدته في عمري السينمائي، والذي يفوق عمري الحقيقي بثلاثة أضعاف، وهي مبالغة بالطبع.

فيلم "نادي القتال" المأخوذ عن رواية بنفس الاسم للكاتب العبقري وأحد آلهة السرد "تشاك بولانيك"، وهو من إخراج أحد آلهة الإخراج، ألا وهو قصير القامة "ديفيد فينشر". وسط هذا الأوليمب الفني، يخرج علينا فيلم نافس الرواية الأصلية، والتي أعدها علامة في تاريخ السرد الإنساني والأدبي، إلا أن الفيلم ضرب على أوتار جديدة غابت عن بال صاحبنا "بولانيك"، لذا أستطيع القول-وأنا مجبر أخاك-إن الفيلم أفضل من الرواية.

بادئ ذي بدء أحب أقتبس عن "بولانيك" قوله: "لقد سمعت أن الناقد ريكس ريد قال أشياء بذيئة تجاه رواية نادي القتال، سمعت أنه قال إن هذه الرواية سوف تجد جمهورها في الجحيم. حسناً، يبدو أني، يوما ما، سوف أضطر أن أزوره هناك وأبتاع له شراباً". أقول إني قد أبصرت "بولاينك" يقف على الخط الذي يفصل بين الجنون والفن. لقد بلغ "بولانيك" في روايته، منتهى الفوضى والجموح والجنون والعشوائية والعنف، وبالضبط هذا ما حدث مع الفيلم، إلا أن الفيلم غلبت عليه بهارات "فينشر" على نفس قدر بهارات "بولانيك". إن الفضل في هذا كله لا يرجع لمؤلف الرواية، بل يرجع إلى "فينشر" الذي أضاف لسيناريو الفيلم ما لم يتوقعه "بولاينك" نفسه الذي قال بعد أن شاهد الفيلم إنه يشعر بالغيرة الشديدة من الفيلم وإنه نسخة محُسنة من الرواية. في الفيلم هناك توسع أكبر للقصة، وحذف لبعض ما ورد في الرواية أو تحوير له، مع بيئة خلاقة أبدع "فينشر" في صنعها لتكون مركز الأحداث التي استغرقت مائة وتسعة وثلاثين دقيقة، مستنفذة الطاقة في مداها الأقصى، دون تبديد للفكرة التي تدور حولها الرواية. الفيلم الذي اقتبس عن الرواية مجموعة الحوارات والنقاشات الفلسفية الاستفزازية، والصدمات البرجوازية والاجتماعية، والتلاعب بالزمن، والخروج عن المألوف، والعنف والفوضى، والعرق والضجيج.

تتناول الرواية-الفيلم-بكل وضوح أزمة المجتمع الغربي الذي غاب عنه معنى وجوده لذا يبحث عن هذا المعنى عن طريق الحضارة الاستهلاكية وذلك من خلال بطل الرواية والفيلم (إدوارد نورتن) الذي لا يحمل أسمًا. يقول الراوي: "نعمل في وظائف لا نحبها لنشتري أشياء لا نحتاجها لنثير اهتمام أشخاص نكرههم". تعكس شخصية الراوي شخصية الطبقة المتوسطة. "نحن أطفال التاريخ الأوسطون، الذين ربانا التليفزيون وقال لنا إننا يومًا سنصير مليونيرات ونجوم سينما ونجوم موسيقا روك، لكن هذا لن يحدث. ونحن الآن نستوعب الحقيقة".

استوعب أبناء هذا الجيل هذه الحقيقة عند بلوغهم سن الثلاثينات، لقد فقدوا إيمانهم بكل شيء وانقلبت موازينهم. وبدأت أصنامهم، التي تربوا على عبادتها، في التحطم. لقد عجز الراوي-بالنيابة عن الطبقة الوسطى-عن إيجاد السعادة. عجز عن العيش دون معنى دون هدف، لقد سأم العيش دون خيارات وإمكانيات، إنه منزوي في هذا الركن الذي يسمى حياته غير قادر على الخروج منه. فشل في تغيير حياته. إنه عبد لمشترياته ولقائمة هذه المشتريات، إنه (طور في ساقية) مصابٌ بهوس الامتلاك. المستهلك المثالي. إنه مصاب بالأرق. إلا أن طبيبه قدم له حلًا غريبًا، وهو أن يشاهد المصابين بالأمراض المستعصية وحالات الإدمان في جلسات الدعم النفسي الجماعية، كي يستوعب تفاهة الألم الذي يدعيه.

يلتحق الشاب بهذه المجموعات، ويشعر بالراحة، عندما يبكي في أحضان "بوب ذو الأثداء الكبيرة" لكنها راحة مؤقتة تزول. سرعان ما تنزل إلى أرض الملعب شخصية من أروع ما قدمت في السينما. "مارلا سينجر" (هيلينا بونهام كارتر). العدمية والعبثية مجسدة في امرأة، فلسفتها خلص فيها "بولانيك" آراء "كامو" و"نيتشته" و"كيركاغرد" و"شوبناهور" في عبارة "قد تموت في أي لحظة والمأساة إنها لا تموت".

تجئ "مارلا" لتكون بمثابة المسمار الأخير في نعش الراوي. لقد بلغ سيله الزبى. وفقد كل الأمل. إلا أنه وجد ضالته على متن إحدى الطائرات. "تايلر ديردن" (براد بيت)، ثم سرعان ليتحول "تايلر" مسيح الراوي. خلق لنا "بولانيك" شخصية نيتشوية بجدارة. هي الشخصية التي يريد الراوي أن يكونها، هي شخصية تمثل إنسان نيشته الأعلى. "تايلر" شخصية خارقة، شخصية الراوي الخارقة.

"تايلر"، الفتى السيء الوسيم، المتمرد، صاحب الآراء التي تجعلك مشدوهًا حينما تسمعها، ذو الشخصية المغناطيسية التي قد ترحب بقضاء أبديك معها في الجحيم. وهو المتحدي صاحب الروح القتالية التي تجعله يريد أن يقاتل "هيمنجواي".

"تايلر" الذي قلب حياة الراوي رأسًا على عقب. هو من يرى الحقيقة كاملة ولا يرضخ لها، وتمرد عليها متحديًا بذلك أبناء هذا الجيل. وهو من وضع المرآة أمام الراوي، يريه بذلك حقيقة نفسه وحياته. لاحظ قوله: "نحن حقًا عبيد لأشياء لا نحتاجها، أشياء نقضي حياتنا في البحث عنها دون التوقف لوهلة والتفكير بسببٍ مقنع لتلك الحاجات النمطية، المنزل المثالي والزوجة اللطيفة والأطفال الرائعون وقطع الأثاث المتينة التي تمتد لسنوات وسنوات .. الأشياء التي تمتلكها أصبحت تمتلك".

"تايلر" يقول لنا قبل الراوي، إن علينا احتقار الحضارة والثقافة والتاريخ، هذا الثالوث الذي أدى لضياع فردية وخصوصية كل شخص منا، هذا السبب الذي أدى لانتشار البرجوازية وهيمنتها، وتفشي نيران الحقد والضغينة عند الطبقة الوسطى، بل وإضرام رغبتهم في الشراء والاستهلاك لإيجاد هدف لهاته الحياة إلى أن أصبحوا في نهاية المطاف عبيدًا لممتلكاتهم.

من هنا يأتي "تايلر" بفكرة التمرد. يقدم للراوي حلًا يمكن من خلال إيجاد الهدف، وتأتي فكرة نادي القتال للحياة. هذه الفكرة التي ألهمت جميع فتيان العم سام. عليك فقط أن تطلق لنفسك العنان. قواعد نادي القتال بسيطة للغاية. القاعدة الأولى هي ألا تتكلم عن نادي القتال، والقاعدة الثانية هي ألا تتكلم عن نادي القتال، ثالثًا القتال بلا قمصان أو أحذية ولسوف يستمر القتال مادام مستمرًا فلا رأفة مسموح بها، ولك وحدك أن تقرر حدود احتمالك، وبالطبع لا مكان للمشاهدة، أنت موجود معنا في النادي إذن عليك أن تقاتل.

بعد ذلك، يدق ناقوس العنف والفوضى والتمرد، وتبدأ القصة. ونرى إجابة تساؤل "ماذا سيحدث إذا تركت لنفسك العنان؟!" إذا تعمقت في الرواية وفي الفيلم ستجد أن هؤلاء الفتية اغتصبوًا البرجوازية والنظام السائد اغتصابًا وجوديًا، إلى أن أصبح البقاء للأقوى. ينتصر العملان للطبقة الوسطى أو البروليتاريا، عن طريق الهزة الشديدة لهذه الطبقة. سترى حلول لمشكلات وجودية. وإن كان ليس هناك حلًا فلا مشكلة في ذلك، على لسان الراوي، المهم أنك ستكون حرًا. وإذا تعمقت أكثر سترى مفهومًا جديدًا للحرية والكمال والتضحية والفوضى والتنظيم والتدمير. وسرعان ما سترى أن الرواية والفيلم أصبحا رمزًا للتمرد والثورة على الوجود، في سبيل إيجاد السعادة والراحة وبناء حضارة جديدة خالية من الأصنام.

النقاد، وفي مقدمهم الناقد الشهير "روجر إيبرت"، لم يحبوا هذا الفيلم مطلقًا، واعتبروه سيئًا للغاية شأنه شأن كل الأفلام التي خلدها التاريخ. بالطبع شكل عليهم هذا النوع من الأفلام صدمة جعلتهم بعد ذلك يعيدوا النظر في رأيهم في الفيلم. أرى أن الفيلم خالي من العيوب من تماما، وأجزم بأنه قطعة فنية كاملة. جاء تمثيل "براد بيت" الأفضل في حياته الفنية، كما هي الحال مع "إدوارد نورتن" "وبونهام كارتر". جميعهم قدموا أداءً عظيمًا وفريدًا. وعن السرد فهو أفضل سرد سينمائي قد تراه في حياتك، وأضمن لك هذا. وبخصوص السيناريو والحبكة، فجاءت الحبكة مترابطة للغاية، ولا يمكنك توقع ما هو آت، وكانت النهاية شديدة المنطقية، فبعد مشهد النهاية ستعود للوراء ربما حتى للبداية، كي تستخلص التلميحات التي قدمها كاتب السيناريو "جيم أوهلس" والمخرج "فينشر". أما عن الإخراج فلا غبار عليه، وقدم نظريات سينمائية جديدة في فن الإخراج والتصوير السينمائي، هو بالطبع أفضل فيلم أخرجه "فينشر" في حياته المديدة، وعليه أن يكون فخورًا به.

نقد آخر لفيلم Fight Club

عنوان النقد اسم المستخدم هل النقد مفيد؟ تاريخ النشر
نادي القتال هو نادي يوجد في العقل الباطن لكل واحد منا !! Sidahmed Badredine Sidahmed Badredine 5/5 10 اغسطس 2014
"تايلر ديردن والترنُّح بين الواقع والخيال .." Hossam Waleed Hossam Waleed 0/0 30 مايو 2018
نادي القتال .. عندما تنتصر السينما على الرواية Ahmed Kassem Ahmed Kassem 4/4 20 سبتمبر 2016