أراء حرة: فيلم - الغيرة القاتلة - 1982


أول طلقة من الطيب: عطيل باللكنة المصرية

في سنة 1982، كان شاب اسمه عاطف الطيب بيخطي أول خطواته في عالم الإخراج السينمائي، وأول تجربة؟ فيلم اسمه "الغيرة القاتلة"، مستوحى من مسرحية "عطيل" لشكسبير، سيناريو وحوار لوصفي درويش وبدل ما الطيب يسيبها جوا القصور الفينيسية والدسائس الأرستقراطية، راح نزل بيها للشارع… وحطها في قلب مجتمع مصري مليان شبهة وشك وموروثات عن الرجولة والسيطرة. الفكرة في حد ذاتها كانت مغامرة، تخيل إنك تاخد عمل كلاسيكي معروف، وتحوله لحكاية ممكن تحصل في بيت جارك أو زميلك في الشغل! لكن عاطف الطيب، حتى وهو لسه في بداياته، كان...اقرأ المزيد عارف هو عايز يقول إيه. **"الغيرة القاتلة"** ما كانتش بس عن راجل بيشك في مراته، أو صديق كله كره للناس اللي حوليه، أو عن التيمة الرئيسية اللي بُنيت عليها المسرحية الأصلية (عطيل) "الغيرة والشك**، لكن كان في تيمات فرعية تانية كتير زي: الخداع والتلاعب، العنصرية والاختلاف، الطبقية والسلطة وهنا قصة الفيلم كانت عن فكرة الغيرة كـعقدة اجتماعية، كمرض متغلغل في الشخصية المصرية، خصوصا لما ترتبط بالنفس الذكوري، اللي مش بيطيق يشوف أي حد حتى لو كان أعز صديق ليه مرتاح، وده اللي قدر عاطف الطيب مع درويش يبلوره ليناسب المجتمع المصري أو يقتبس منه ليقدم قصة حلوة وبسيطة. أكيد الفيلم مش متكامل، وفيه مشاكل واضحة، الكتابة أحيانا بتقع في المباشرة، وبعض المشاهد فيها "مسرحية" زايدة شوية، والإيقاع مش دايما متوازن، لكن اللي بيخلي التجربة تستحق التأمل فعلا، هو إنك بتشوف مخرج شاب بيحاول يلاقي صوته، واحد عايز يقول حاجة حقيقية عن ناس حقيقية، وبيحطها في حكاية كلاسيكية بس بيحاول يبص عليها من زاوية جديدة. الفيلم بيخلي الغيرة مش بس شعور… لكن سلوك يومي، ممكن يهد بيوت، ويحرق قلوب، ويدمر علاقات صداقة قوية وبيطرح سؤال صعب: "هل الغيرة دليل حب؟ ولا دليل ضعف؟" رغم كل السقطات، "الغيرة القاتلة" هو حجر الأساس لمخرج بقى له بصمة واضحة جدا بعد كده. عاطف الطيب لاحقا هيعمل "البريء" و"ضد الحكومة" و"كشف المستور"، وهيفضل دايما صوت بيعرف يحول الغضب الإنساني لفيلم، زي اسطورته (سواق الأتوبيس) وبالرغم من أن الغيرة القاتلة يعتبر أول أفلامه، إلا إنه قدر يبني عالم مش مصطنع، قدر يزحلق شكسبير جوا المجتمع المصري… ويطلع حكاية قريبة، موجعة، حتى لو ما كانتش متماسكة طول الوقت. من الحاجات اللي رفعت من قيمة "الغيرة القاتلة" فعلا، هو الاختيار الذكي لثنائية نور الشريف ونورا، الاتنين دول كان بينهم كيميا نادرة في السينما المصرية، كأن الكاميرا لما تجمعهم… بتسمع نبض مختلف، اشتغلوا مع بعض كتير جدا: من العار لجرس الخطر وانحراف وحتى زمن حاتم زهران، وكل مرة كانوا بيقدموا شكل جديد للعلاقة بين الرجل والمرأة، علاقة فيها صدق، فيها شد وجذب، فيها لحظات ضعف، وأحيانا فيها هروب من الوجع. في "الغيرة القاتلة"، نورا كانت بتلعب دور الست اللي بتحب بصدق، بس بتحاصرها شبهة، ومجتمع بيشك فيها قبل ما يسمعها. وقدرت تقدم شخصية الست اللي بتدافع عن كرامتها في صمت، وحتى لما كانت بتتكلم… كانت عيونها دايما هي الأقوى. ونور الشريف… كعادته، بيعرف يلبس الشخصية لدرجة إنك تنسى اسمه، وتصدق إن ده راجل بيغلي من جوه، مش عارف يصدق، ولا يواجه، ولا يحب من غير ما يراقب. الثنائي ده… ما كانش بيحتاج مشاهد حب أو قبلات علشان يقنعك إن في حب، كان يكفيهم مشهد صمت، أو نظرة متأخرة، أو لحظة شك، علشان يحكوا لك قصة كاملة. من أكتر الحاجات الذكية في سيناريو الفيلم، هو إنه استبدل شخصية ياجو الشرير في مسرحية "عطيل" بشخصية "مخلص"… الاسم في حد ذاته فيه سخرية: واحد اسمه "مخلص"، بس هو في الحقيقة أكتر شخصية ما عندهاش ذرة إخلاص! وهنا بتيجي براعة يحيى الفخراني، اللي قدر يقدم الدور ده من غير ما يبقى شرير كاريكاتيري، ومن غير ما يقول جملة واحدة فيها "أنا بكرهك"، لكن طول الوقت… بيزرع الشك، بيهمس، بيغري، وبيخلي صاحبه يقع في فخ، من غير ما يمد له إيده. الفخراني في الدور ده كان زي السم في العسل، بيضحك، ويواسي، ويبرر، لكنه في الحقيقة… بيحفر القبر حوالين كل شخصية، وده بيدل على ذكاء عاطف الطيب في اختيار الممثلين: عارف إنك محتاج ممثل مش بس شاطر… لكن عنده قدرة يرسم شخصية من جوه، من النفس، من لغة الجسد، ومن النبرة. الميزة الكبيرة في شغل عاطف الطيب هنا، إنه اختار ممثلين ما بيحبوش يصرخوا… بيعرفوا **"يسيبوا المسافة"** في المشهد، المسافة بين الكلام والحقيقة. وهو ده اللي خلى التوليفة دي تشتغل: **نورا الحزينة الصامدة، نور الشريف الممزق، والفخراني المتلاعب في الظل.** كل واحد بيلعب دوره في اللعبة النفسية من غير ما يشرح نفسه، وسيبك من السيناريو اللي فيه بعض التكرار أو الخطابية… اللي بيحرك الفيلم فعلا هو الأداء، والعيون، والسكوت الطويل اللي بيقول كل حاجة. "الغيرة القاتلة" هو مش مجرد اقتباس من "عطيل"، هو محاولة أولى لرؤية… لعين شابة شايفة إن الشك مش بس مأساة أدبية، لكنه كارثة مجتمعية متكررة. وفي النهاية هو فيلم مش كامل… لكنه صادق. وده، في رأيي، كفاية أوي لبداية عظيمة زي عاطف الطيب.