رحل عنا يوسف شاهين راوي الحدوتة المصرية، ربما فارقنا جسده منذ عامان، إلا أن "قناوي" لا يزال سارحاً بجردل "الأزوزة" في باب الحديد حتى يومنا هذا، لا نزال نراه في محطة سكك حديد مصر يفعل كل ما في وسعه لجذب انتباه "هنومة" نحوه، يعبر لها عن حبه، يهديها كردان أمه كشبكة لها لترضى عنه، "قناوي" بائع الجرائد، العاشق المخبول الذي قرر قتل فتاة أحلامه غيرة عليها من خطيبها " فريد شوقي"، وكأن قصته عبارة عن تجسيد للمثل الشعبي القائل "ومن الحب ما قتل"، قناوي الرجل الذي برع في تقديم دور "الأعرج" في السينما المصرية، حتى أن إسكندر ابنه حين شاهده أو شاهد "يحيى" أو محمود حميدة القائم بدور شاهين "في فيلم إسكندرية نيويورك من رباعية الأفلام الذاتية عن حياته" لم يصدق أن هذا الرجل الذي مثل في باب الحديد نفسه الذي يمشى أمامه ألان دون أي إعاقات في قدمه، وعلى الرغم من كل هذا التشجيع والجوائز التي حصدها من خارج مصر، بصق احد المتفرجين في وجهه ـ شاهين ـ ليلة العرض الأول للفيلم.
برحيل شاهين في 27 يوليو 2008 كما قال الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزى وقتها "فقد الفن السابع لتوه أحد أشهر المساهمين فيه، يوسف شاهين المتعلق جدا بمصر لكنه منفتح على العالم، هو مخرج ملتزم ومدافع كبير عن حرية التعبير وبشكل أوسع عن الحريات الفردية والجماعية".
ولكي نبدأ في رواية أحداث حياته لن نحكى ما كتب عنه بالأرقام والأوراق الرسمية، سنتكلم عنه من خلال شخصياته سواء التي جسدها بنفسه أو التي جسدها غيره ولكنه كان يتعمد إدخال تفاصيل من حياته في أعماله وكأنه يصب من روحه في بوتقة، ويمزج بين نفسه ونفس بطل القصة بعصا الإخراج السحرية، فتخرج شخصية حقيقية تعج بالتفاصيل، تتكلم فنصدقها، تنفعل وتبكى وتيأس، فنتأثر بها.
"يحيى شكري" أو محسن محيى الدين، لا يهم الاسم كثيرا فكلاهما قدم الجزء الأول من رباعية شاهين لسيرته الذاتية، " إسكندرية ليه"، يحيى الشاب الذي لا يهتم بملابسه واستبدل بدلته بفستان لأخته ثم قال بعدها وعلى لسان شاهين "أنا لا يهمني أن يكون عندي مرسيدس - عربيتي عاجباني - وعندي بدلة تنفعني في الأفراح والمآتم وحفلات الافتتاح"، دخل أهم مدرسة في الإسكندرية ليتلقى تربية انجليزية صارمة حتى يجد حين يتخرج أصدقاء له في مراتب راقية فيساعدونه.. هكذا حلمت أمه " محسنة توفيق"، مدرسته التي أثرت فيه كثيراً، زملائه وأساتذته الذين طالما بهتوا إعجابا بتأديته إحدى مشاهد من المسرحيات العالمية، يحيى الذي ظل يحارب حتى ينجح، فقط ليثبت لجدته خطأها يوم تمنت أن يموت هو بدلاً من أخاه الكبير، فكان كلما شعر باليأس رنت الجملة في أذناه، "الكبير مات، باريته كان الصغير".
شاهين راوي الحدوتة المصرية الأكبر بصوت منيراوي، منادياً على الإنسان لا مبالي باسمه ولا رسمه ولا عنوانه ولا لونه، قاصاً علينا فيها محنة المرض، سفره للعلاج في انجلترا، سيجارته التي لم تفارقه قط، محاكمة أهله وزوجته ونفسه، السلام النفسي الذي حظي به في تلك الفترة بعدما كان يتهم نفسه أحيانا انه لم يعد يفكر سوى في يحيى "شخصية الفيلم"، وتحدث شاهين نفسه عن هذه النقطة في الواقع قائلاً "كنت "تعبان" من نفسي جدًا وأنا صغير.. وكانوا يقولون عني إنني مصاب بشيزوفرينيا، وكنت أقول لهم "مش ممكن أكون شخصين.. أنا أكتر من كده بكتير.. أنا شخص متعدد.. ممكن أكون 18 شخصاً في بعض".
ثم تسائل في "حدوتة مصرية عن "إحساس النزول في الجحيم"؟، و تكلم عن رؤيته للحياة على أنها "قمع في قمع".
الغريب انه كان دائما مستقل بنفسه، لا يهمه كم اختلف مع الآخرين في الآراء، المخرج المحلق الذي يسافر للإسكندرية فجأة للتفكير فيما يجب فعله في فنه، وأفكاره التي يريد إيصالها للناس دون أن يتهموه بالجنون، شاهين نفسه قام بدور يحي في إسكندرية كمان وكمان، الرجل الذي يشعر دوما باختلاف في أفكاره ولكنه متأكد من صحتها فقال بعدها "أشعر بوجود مشكلة مع نفسي منذ كان عمري 13 عامًا.. كنت غريبًا عن الأولاد في المدرسة أو الشارع".
تكلم شاهين في شبابه أكثر من مرة عن معرفته انه غير وسيم وان ملابسه ليست باهظة الثمن وانه لا يملك سيارة فارهة، وان البنات يحبونه لأنه "بيرقصهم حلو" كما قالها له صديقه في فيلم إسكندرية ليه، وأعادها في "إسكندرية نيويورك" حين قال "أنا لا غنى ولا حلو، واستعلمت الرقص عشان البنات تحب ترقص معايا".
يحيى الذي وقع في حب جينجر، الفتاة الجميلة التي تشاركه دراسة الإخراج، ويتسكعان معا في شوارع نيويورك، يتسللان إلى كواليس هوليود، يحلمان بفرصة تمنحهم الشهرة، يتشاركان جائزة مسابقة الرقص، يكمل دراسته هناك بمحض الصدفة بعدما عجز والده عن دفع مصاريفه، ثم يعود لمصر تاركا جينجر تحمل طفلا دون أن يعلم، فقط حين يصبح ابنه "اسكندر" هو الباليرينا الأشهر في نيويورك، ويكرم هناك يحيى عن أفلامه تصرح لهم جينجر بالخبر.
ربما رحل شاهين، لكن يحيى وقناوي وهنومة وجينجر وإبراهيم وسارة موجدان، لا يزال يحيي يطارد حلمه في الوصول للعالمية في الإخراج واقتحام هوليود بأفلامه، وأسر قلوب البنات وأسرهم بفنه وخطواته الراقصة بدلا من العيون الناعسة والملابس الراقية التي يجذب بها الشباب البنات.
على الرغم من رحيل شاهين منذ عامان، الآن أن الناس لازالت تتذكره دوماً، سواء مؤيدين لأفكاره أو المنتقدين لها، اكتب فقط على موقع الفيس بوك اسم يوسف شاهين، لتجد ما يزيد عن 340 جروب، 120 شخص باسمه، 32 صفحة محبين، وصل عدد محبيه في 5 صفحات فقط 153 ألف مشترك.
أسس المخرج يحيى مراد، د.احمد حلاوة وآخرين جروب في ذكرى رحيل شاهين الثانية، بعنوان "أسبوع يوسف شاهين"، ويقول يحي، "ان الجروب غير مغلق على شخصية شاهين وإنما يناقش كل قضايا الفن، خاصة الموجودة في مجتمعنا"، ويضيف يحي انه لم يلتق بشاهين على المستوى المهني في أعمال ما، لكنهم تقابلا عدة مرات بعضها عنده في الأكاديمية، كما رآه أكثر من مرة في المركز الثقافي الفرنسي، لكنه تعلم من الكثير".
اما على الصفحات المختلفة، فكتب سليم السلامونى، "ولد وعاش ومات من اجل فلسفة سينمائية يغازل بها التاريخ، وليبقى شاهداً في قلب التاريخ السينمائي المعاصر على ما حل بنا"، كما كتبت الفنانة رولا محمود "لن يكون هناك شخصا مثل شاهين ثانية"، أما عزة محمد فكتبت "وأنا صغيرة كنت دايماً بسمع الناس بتقول أن أفلامه مش مفهومة وصعبة، وبعدما كبرت وشاهدتها وجدتها مجموعة من التحف السينمائية لا يختلف عليها عاقل، وانه كان يقدم أسئلة تهم كل الناس بأسلوب لا يتخطى تفكير المواطن البسيط.. الله يرحمك يا شاهين".
أكثرهم صدقاً في الحديث معنا عن شاهين كان شاهين نفسه، فإذا أردت معرفة معلومة ما عنه خذها من أفلامه التي كان يتعمد غرس اعتقاداته بها مؤمناً ان هذا العمل الفني يجب أن ينشر من خلاله آراءه، أو من كلماته التي كتبت على صفحات الجرائد أو من الأحاديث التليفزيونية.
فقال شاهين، " في كل أفلامي لغز غامض لا يقوي علي فهمه الكسالى الذين يريدون - بحكم التعود - فهم الأشياء مسبقًا قبل التفاعل معها"، مدافعاً عن أفلامه من تهمة التعالي على عقلية المواطن البسيط.
ثم قال "في بداياتي كنت مضطراً لقبول أعمال حتى أواصل واستمر، ومهما كان تأثيري ضعيفاً في هذه الفترة، فإنها ستبقى بالنسبة لى شيئاً إيجابياً، لأنها جعلتني موجوداً وقادراً على العمل طوال الوقت".
وكان هناك رداً جاهزاً دوماً لكل من تحدث معه عن الأخلاقيات ومشاهد السينما الساخنة، أو حتى المواضيع الدينية التي يثيرها فيقول " الخطيئة جزء من تكويني.. أنا لا أدخل لا الكنائس ولا أي شيء.. الإيمان موجود في داخلي بالفطرة لأنني شرقي.. والخطيئة في الفن هي منبعه".
كما قال أيضا " إن التعصب كفيل بأن يصل بنا إلي مرحلة خطيرة جدًا، هي ضد الحضارة النابعة أصلاً من وجدان الإنسان العربي، وهي ضد الميثاق الثوري الذي نتمناه للدولة التي نريد خلقها في فلسطين، الدولة الديمقراطية العلمانية".
الفنان الملتزم من وجهة نظره هو "الذي يتقبل مسؤوليات اختياره بسلبياته وإيجابياته".
إما المادة في حياة شاهين فكانت لا تهم وقال عنها "أنا حتى اليوم لم استطع أن احصل من أعمالي على اجر يكفي شراء نصف سيارة، وليس عندي مانع، يكفي أنني أستطيع أن اصرف على فيلم محترم".
ثم يضيف " حين أستعرض مشواري مع السينما المصرية بكل سلبياته وإيجابياته، وبكل ما قدمت من إضافات وبكل ما حصلت عليه من عذابات، أستطيع القول إنني أخذت من السينما بقدر ما أعطيتها، وأن رحلتي مع السينما المصرية كانت تستحق كل ما قدمته من أجلها".