لدى هوليوود تاريخ طويل في منع الوقائع بالوقوف عائقاً أمامها عند إنتاجها أفلاماً عن أشخاص من عالم الواقع. منذ نحو 70 عاماً، ظهر فيلم "المواطن كين" الذي يسرد سيرة العملاق في مجال الإعلام ويليام راندولف هيرست، خلال سطوع نجمه. واليوم يأتينا الشبكة الإجتماعية ، الذي يروي لنا كيفية بناء مارك زوكربيرج موقع "فيس بوك". على رغم أوجه الشبه الكثيرة بين الفيلمين، نظراً إلى أن كليهما يرويان سيرتين طموحتين عن شخصين يملكان بصيرة حادة في مجال الإعلام، ويتمتعان بقوة هائلة إنما تشوبهما عيوب متجذرة، إلا أن القصّتين تعكسان اختلافاً جوهرياً يكشف عن الحقبتين اللتين برزا فيهما. وعلى رغم السرد شبه الخيالي في الفيلمين، لكنهما يظهران «صدق» شخصيّتيهما بأساليب مختلفة تماماً.
حين كتب أورسن ويلز وهيرمان مانكويتس سيناريو فيلم المواطن كين، لم يكن لديهما أدنى شك في أن هيرسل هو الشخصية الأساسية، حتّى لو لم يُذكَر اسمه. ففي النهاية، كان مانكويتس على معرفة واسعة به، كونه كان يتردد كثيراً على حفلات هيرست إلى أن مُنع من حضورها لإسرافه في الشرب خلالها. لكن في زمن المواطن كين، كانت للخيال قوّة أدبية. وبما أن الفيلم مقتبس عن سيرة حياة شخصية نافذة مثل هيرست، يصبح الخيال حتماً آلية وقائية. كان لدى ويلز ومانكويتس سبب وجيه للشعور بالقلق: فقد اغتاظ عملاق الإعلام بشدّة من الفيلم إلى حدّ أنه منع نشر أي إعلان أو انتقاد يخصّه في صحفه، حذّر مسارح كثيرة من عرضه، حمل محرّريه على مهاجمة ويلز في مقالاتهم ومارس ضغوطه على رئيس شركة "ام جي ام" لويس ب. ماير لدفع 800 ألف دولار أميركي لشركة "أر كي أو" لتدمير جميع مطبوعات الفيلم وإحراق صوره السلبية.
عرف هيرست تمام المعرفة أن الفيلم يتناول قصّته، لأن الروائيين ومخرجي الأفلام الأميركيين في هوليوود درجوا، خلال منتصف القرن العشرين، على استخدام أدوات أدبية كالرواية لمنح أنفسهم الحرية السردية لاقتباس القصص عن سيرة حياة أشخاص من عالم الواقع. ففي النهاية، خلال معظم القرن العشرين، سادت قصص الخيال: كل ما كان يطمح إليه الكتّاب آنذاك حمل لقب «أعظم روائي أميركي»، وليس كاتب قصص واقعية ذائع الصيت. لكن الزمن تغيّر. بتنا نعيش في عصر حيث يطالب الجمهور بقصص واقعية، وليس مرادفاً مبطّناً لها. لذا على رغم أن قلّةً من الأفلام لا تزال تصوغ مواضيعها في إطار خيالي، يقدّم لنا معظم الأفلام الأخيرة قصصاً عن أشخاص حقيقيين، ولو أنها لا تتطابق مع الوقائع تماماً.
غياب المصدر
أما في الشبكة الاأجتماعية ، لا يتضّح لنا حتّى المصدر الذي اقتُبس منه الفيلم. قال مخرجوه إنه مستوحىً من كتاب بن ميزريك المنشور بعنوان يحبس الأنفاس إلى حد ما . مع ذلك، لا نبالغ بقولنا إن الكتاب بحد ذاته ليس مقتبساً عن حقائق، كون ميزريك يقر بأنه أعاد رسم المشاهد، غيّر المواقع، وذكر أيضاً أنه استخدم «أفضل أحكامه» وليس السجل الواقعي. (كتبت جانيت ماسلين في نقدها للكتاب المنشور في صحيفة «نيويورك تايمز» أنه «غير موثوق»).
ولإضفاء مزيد من الغموض، قال كاتب سيناريو الفيلم آرون سوركين إنه لم يطّلع فعلياً على الكتاب، إلى أن انتهى تقريباً من كتابة نصّه، بعد أن استمع إلى «بين وهو يقرأ بعض الملاحظات عبر كمبيوتره».
في هذا الإطار، وصف ديفيد كيركباتريك، صحافي مخضرم ألّف أخيراً بالتعاون مع زوكربيرج كتاباً بعنوان أثر شبكة فيس بوك، الفيلم بـ"المجحف كلياً". فيما وصفه زوكربيرج بـ"الخيال". وعلى غرار هيرست، لم يسمح بظهور إعلاناته على موقعه
فهل يتمحور الشبكة الإجتماعية فعلاً حول زوكربيرج؟ أم أنه يدور حول شخصية خيالية قرر سوركين تسميتها زوكربيرج؟ وإن صح ذلك، هل علينا نحن الجمهور الذين سنشاهد الفيلم الشعور بالانزعاج بشأن مدى اضطرارنا إلى التعاطف مع قصّة مصداقيتها غير مكتملة، وإن لم يكن الفيلم عن حياة زوكربيرج، عمّن هو بأية حال؟
يسارع مخرجو الأفلام في هوليوود إلى الجدال بأنه يحق لهم تصوير قصص الأشخاص في قالب خيالي حتّى الصميم، طالما أنهم يقومون بذلك بالروح الصحيحة. بمعنىً آخر، يجب أن نثق بهم. حين سأل مارك هاريس من مجلة «نيويورك سوركين» عن مشاهد في الشبكة الإجتماعية تبدو من اختراعه بالكامل، قال"لا يهمني أن أكون وفياً للحقيقة، وإنما للسرد القصصي".
تلك عادة سليمة في مجال كتابة السيناريو: القصة هي الأهم دوماً. وحتّى عندما طبّقها مانكويتس منذ 70 عاماً، أقله لم يحمل بطيختين في يد واحدة. في المقابل، يستخدم الكاتب الدرامي العصري إلى حد كبير الحياة الواقعية كمعجونة، فيلوي ويحني بكل سرور الشخصية بطرق تمنح القصة أفضل شكل وأعلى قيمة. ومن الواضح بأن الفيلم لما أثار هذا الصخب لو أن أحداثه تدور حول أحد الروّاد الخياليين لشبكة اجتماعية يُدعى مات فينبيرج.
مع ذلك، تبدو المبادئ مرنة للغاية في ما يتعلّق بالمدى المسموح به لإعادة صياغة أي قصة. كلما أحببنا القصّة أكثر، واحترمنا من يرويها، كانت لنا حرية أكبر في التصرّف بالفيلم. مثلاً، انتقد صحافيون كثر فيلم هوريكاين للمخرج نورمان جويسون، الذي أعطى لنفسه حرية كبيرة في سرد قصة الملاكم روبن «هوريكاين» كارتر، لاعتبارهم أن الفيلم رديء من الناحية الرومانسية. كذلك، لجأ الكاتب المسرحي البريطاني بيتر مورغان الذي تحوّل إلى كاتب سيناريو أفلام، إلى الاختراع الدرامي في فيلمي نيكسون و الملكة، لكنه أفلت من الانتقادات، لا سيما أن النقّاد يقدّرون عمله ونواياه إلى حد كبير.
مع ذلك، لا يتصرّف الجميع بطريقة غير مسؤولة مع الحقائق. فقد حرص ستيفن سودربيرج على أن يكون وفياً للحقائق خلال صناعته فيلم بروكفيتش، وتمكّن من إلغاء فيلم كرة المال لفترة وجيزة لأنه أراد تصوير نص يتطابق بدقة والقصة الأصلية.
يشعر مخرجو الأفلام اليوم عموماً بالارتياح لقدرتهم على اختراع أي عناصر خيالية يحتاجونها لإخبار قصص حقيقية. قد يعطي ذلك حياةً للسرد القصصي، إنما قد يشوّش على نحو مقلق الخط الغامض مسبقاً بين الحقيقة والخيال.
وفي معرض الدفاع عن فيلم هوريكاين ، كتب رودجر إيبرت بأن «أولئك الذين يسعون وراء حقيقة حياة رجل في فيلم يستطيعون الحصول عليها من جدّته المحبوبة». لكن سرد الوقائع تدنى جداً في هذا المجال، فإن كنا لا نستطيع معرفة الحقيقة من أفضل الراوين لدينا وأكثرهم موهبةً في هوليوود، ممن يُفترض بنا الحصول عليها؟