من الصعب أن تصنع فيلماً، والأصعب أن تصنع فيلما له قيمة، والاصعب والأصعب أن تصنع فيلما له قيمة وبه عمق، وهو ما فعله داوود عبدالسيد في فيلمه أرض الخوف.
حيث تختلط الفلسفة دائماً بالفن داخل عالم داوود عبدالسيد، لذلك يحمل فيلم أرض الخوف عمقاً يبحث في قضايا إيمانية خطيرة حملتها الدلالات الرمزية بين أحداث الفيلم، والتي حرص داوود شخصياً على الإشارة عليها بطريقة أو بأخرى، لتصل إلى المشاهد، من خلال تفاصيل السيناريو الذي كتبه بنفسه.
حيث يتم تكليف ضابط المباحث يحيى المنقباوي ( أحمد زكي) بمهمة الاندماج مع تجار المخدرات ليصبح واحدا منهم، ليقوم بكشفهم وتقديمهم للعدالة، فيتم فصله بتهمة الرشوة وحبسه بينهم، حتى يصبح اسمه يحيى أبو دبورة نسبة إلى مهنته الأصلية كضابط، مع توثيق شهادة رسمية بالمهمة حفاظا على أمن الضابط في حالة القبض عليه في أي توقيت.
اعتمد داود في تلك المرحلة على موسيقى راجح داوود الرائعة - كالعادة - والموحية - دائماً - لتصوير الجو المأساوي المخيف ومصير الضابط المجهول، بالاضافة إلى المؤثرات الطبيعية من برق ورعد.
فيما يشبه عرض الأمانة على الإنسان والتعاسة التي ستصيبه من بعد لحظة قبولها،
فيحيى المنقباوي هو أبونا أدم الذي يهبط إلى أرض لا يعرفها، وقد اشار داوود إلى هذا باسقاط مباشر جدا على قصة آدم عليه السلام مع الشيطان والأكل من الشجرة المحرمة التي منعه الله أن يأكل منها، فكان تناول "يحيى" للتفاحة إيذانا بخروجه من حياة الاستقرار إلى "أرض الخوف" - اسم المهمة المكلف بها رسميا - وهي دنيا تجار المخدرات.
لتبدأ قصة مأساة الإنسان في هذا العالم الذي اختار سكناه بملء إرادته، وكذلك يحيى الذي قبل هذه المهمة بكامل ارادته لتنقطع صلته تماما بواقعه الحقيقي قبل أن تتم إقالة وزير الداخلية ومدير المخابرات العامة وهما الوحيدان اللذان لديهما علم بمهمته الرسمية ليصبح بلا سند، ولا يعرف أحد بكونه ضابطا مكلفا بمهمة رسمية، بل إن تعميق المأساة يصل ذروته حينما يكتشف أن رسائله التي يبعثها إلى رؤسائه - الذين كلفوه بالمهمة - لا تصل لأحد .
وهنا يناقش داوود في عمق فلسفي تكليف الإنسان ثم تركه وحيدا يواجه الحياة فيتهم نفسه مرة ويتهم الالهة مرة ويؤمن قليلا ويكفر كثيرا، ويبقى دائما في حيرة بين طريق الخير وطريق الشر وهو ما يتمثل في سؤال يحيى لنفسه هل هو بالفعل ضابط كلف بمهمة رسمية أم هو تاجر مخدرات حقيقي.
حتى عندما حقق داوود اتصالا من نوع ما بين أدم - يحيى ابو دبورة - وموسى موظف البريد ( عبدالرحمن أبو زهرة)، اختار اسما موحيان بل واختار أن يجمعهما اللقاء في مسجد، قبل أن يختم شخصية موسى بتلك الرسالة الواضحة حينما قال للضابط عمر الاسيوطي ( عزت ابو عوف) " أنا مجرد ساعي بريد" فيما يرمز لمهمة توصيل الرسالة، حيث تنحصر فقط مهمة أي رسول، لا يملك بعدها أن يهب الانسان الغفران.
حتى لقاء يحيى مع عمر والذي أصر فيه عمر على أن يحيى مجرد مجرم ورفض الإعتراف بحقيقته، أنهى داود الحوار بيحيى قائلا "انت عامل زي إبليس لما طلب منه ربنا أنه يركع لآدم فرفض وتكبر وبقي إبليس" و انصرف كلا منهما في اتجاه عكس الاخر في مشهد حرص داوود على أن يشبه الجنة بخضرته الزاهية ونقائه الواضح.
كل هذه الفلسفة الدينية وكل هذه التساؤلات والقلق الوجودي بل وبعض الأساطير القديمة يقدمه لنا داوود في سلاسة وبساطة دون عناء.
يتبقى لنا أن نتذكر أن داوود غزل ببراعة بين كل تلك الأحداث علاقة حب رقيقة جدا بين يحيى و فريدة ( فيدرا)، وكذلك أجاد رسم شخصية المعلم هدهد ( حمدي غيث) تاجر المخدرات المؤمن، ليضيف بعدا جديدا للصورة.
ولكن رغم كل تلك المميزات في هذا الفيلم، إلا انه لا يستحق أن يكون ضمن الأفلام الـ10 الافضل في الالفية الجديدة ، أولا لأنه انتاج سنة 1999، ولا ينتمي من الاساس للقرن الجديد، ولا أعلم على اي اساس تم إختياره.
أما السبب التاني فهو أن الفيلم بالكامل مقتبس من فيلم Deep cover الذي قام باخراجه بيل ديوك عام 1992، على الرغم من أن داود اضاف إلى القصة ابعادا أخرى وعمقا أكبر، إلا أن الخيوط الرئيسية للفيلم هى بنفسها الخيوط الرئيسية للفيلم الأجنبي.
أرض الخوف فيلما نجح فيه داود عبدالسيد في صناعة سينما تستحق الإحترام، ويستحق تقييما مرتفعاً إلا أن نقطة الضعف الأولى تنسف الفكرة من الأساس، وتبقى نقطة الضعف الثانية علامة إستفهام حول مخرج في قيمة داوود عبدالسيد.