يبدأ فيلم الأبواب المغلقة لـ" عاطف حتاتة" بمشهد لبطل الفيلم المُراهق "محمد" في الفصل "يتلصّص" على مدرسة البنات المُجاورة ، لينادي عليه مُدرسه "منصور" ويضربه بالعصا ويطرده لخارج الحصّة ، هذا المشهد الذي يستمر لمدّة دقيقة يلخّص فكرة "القهر" التي يدور حولها الفيلم بكامله .
يدور الفيلم في القاهرة عامي 90 و91 أثناء حرب الخليج ، ويتناول حياة "محمّد" وعلاقته بالمُجتمع وثالوث "الجنس/الدين/السياسة" في فترة مُراهقته ، حيثُ يعيش وحيداً مع أمّه بعد أن تركهم الأب ليتزوّج بنت في عمر أولاده وسافر أخيه الأكبر إلى العراق ولكن فُقدت أخباره منذ خمس سنوات بعد تجنيده في الجيش أثناء الحرب مع إيران ، الأم تعمل خادمة في البيوت وتحلم بأن يكون ابنها "طياراً" كي يعوّضها عن قسوة الأيّام التي عاشتها ، ولكن الحياة أصعب كثيراً من تصوّرها عنها ، وأمام قهر المُجتمع في مقابل احتضان جماعات الأصوليّة الدينية وتعقّد مشاعر مُراهق يكتشف رغباته ومخاوفه وعلاقته بالجنس والدين ، يَطرق عاطف حتانة كافة الأبواب المغلقة في فيلمه الأوّل ..
بداية العمل عام 90 مع مُراهق شاب يُمثّل النواة الأولى لـ"إرهابي" في المستقبل لم تأتِ عبثاً ، هيّ أشبة بمحاولة الإجابة عن طريق طرح الأسئلة ، أسئلة حول الملامح التي شكّلت تلك السنوات الفاصلة في تاريخ مصر التسعينات ، وكأن عاطف حتاتة يحاول استشراف ملامح العقد كله عبر سؤال : كيف بدأ كل هذا ؟ ، كيف يولد الفقر والضغط والقهر مجتمعاً مُنغلقاً ومكبوتاً على نفسه ؟ ، كيف تسبب هَوَس الثراء الخليجي السريع بتفسّخ الأسرة المصريّة ؟ ، كيف أثّر انهيار الحلم القومي في تدمير حياة أبسط الناس وتوجههم نحو "حلم ديني بديل" ؟ ، كيف انعزل المثقفون على أنفسهم وهربوا من إحباطهم بالخَمر أو ببيعِ القضية ؟ ، وكيف كان عقد مضطرب كالتسعينات نتيجة ضرورية لكل هذا .. حيثُ الإرهاب وقضايا الشرف وانهيار المُجتمع وانعدام قيمة الفرد في وطنٍ يقهره ..
مُتلازمة "القهر" هي المُفتاح الأول لقراءة هذا العمل ، مُحمد المقهور في مدرسته ومقهور في بيئته ومقهور في أحلامه ، الأم مَقهورة بخدمتها في البيوت وصمتها على صاحب العمل الذي تحرّش بها حتى لا يَنْقَطع عيشها ، الجارة المُومس يقهرها احتياجها للمال لتبيع جسدها رخيصاً للفقراء ، عَوضين يموت على رصيف الشارع الذي قضى عمره عليه ، حتى المُدرّس "منصور" يخبر الأم في أحد المشاهد أن حبيبته تزوّجت من أخيه الأكبر لأنه عاد من الخليج غنياً وأن والده طلب منه أن يترك لهم غرفته قبل سفرهم كي يقضوا أيام زواجهم الأولى فظلّ أسبوعين يستمع لصوت تأوهاتهم - خلف الأبواب المغلقة ! - "مقهوراً" أمام صورة أخيه الذي يضاجع حبيبته .. وينهي حديثه بقوله "عُمرِك شفتي ذُل أكتر من كده" ؟ ، ليصدّر هو بدوره "قهراً" من نوعٍ آخر لتلاميذه ويخرج فيهم طاقة الغضب التي ولّدها فيه المُجتمع ، لتتوالى دائرة متتالية بين "قهر الذات" و"قهر الآخر" دون قدرة حقيقية من أحد على طرق الأبواب لإيقاف كل هذا ..
كان حتاتة في منتصف العشرينات حين أخرج الفيلم ، لا يفصله عن سنين مراهقته سوى خطوة واحدة ، يُدرك جيّداً كل مشاعر تلك الفترة المضطربة من حياةِ كل منا ، لذلك فالفيلم كذلك - وقبل كل شيء - عن حياة هذا المُراهق - الذي يؤديه أحمد عزمي بتميّز وتمكّن - ، يتتبع حتاتة بذكاء - وبما قال أنه جزءً من تجربته - كافة المشاعر المُتناقضة التي يحملها ، مشاعره الأوديبية نحو أمّه التي تجعله يغار عليها بعنف من كافة الرجال وتقوده لنهاية مأساوية ، اكتشافه لجسده ولغرائزه واشتهاءه لجارته وسرقته النظر نحوها ونحو الجنس الآخر ، موروثه الديني وانتماءه للمسجد حيثُ المكان الوحيد الذي يشعر أنه يحتويه ، حُبه للدنيا - عوضين وأمه واللحظات التي يصفو فيها - وخوفه من الآخرة - المسجد وأحاديث النّار والشيوخ ذوي الحناجر المرتفعة - ، إدراكه لفقره ومحاولته لتحمّل المسئوليّة وتلمّس خطواته نحو الرّجولة ، مشاعر متناقضية وعنيفة ولا تجد من يحتويها ينتقل بها حتاتة من الخاص - الذي يمسّنا كبشر- إلى العام - الذي يمسّنا كوطن - حين تُساهم كل تلك المشاعر التي يمر بها "محمّد" في ازدياد غضبه الفردي - بفعل القهر الذي تحدثت عنه مسبقاً - الذي يُوجّه عن طريق جماعات الأصولية الدينية لغضبٍ نحو "المُجتمع الكافر" وبشكلٍ يُسهّل استخدام العُنف ضده ، ليتبادل المُجتمع/الفرد دوري الجاني والضحيّة وتصبح النتيجة وطناً مشوّشاً كمصر التسعينات ..
إنه فيلم ينظّر لمرحلة وعقدٍ كامل عبر طرق الأبواب والبحث عن الأسباب التي أوصلت لتلك النتائج ، حيثُ رؤية من عاطف حتاتة الناضجة التي نَبّأت وقت عرض الفيلم - عام 2000 - بمخرجٍ كبير قادم بقوّة ، وهي رؤية لم تتوقف فقط عند حد القيمة الفكرية بل تجاوزتها لتصل إلى القيمة الفنيّة الرفيعة التي غلّفت الفيلم ، وهو ما تحقق عبر طاقم الفيلم (المثالي) : ديكور حامد حمدان وملابس ناهد نصر اللهتَصنع ملامح البيئة المُنغلقة التي خَلَقت هذا المُراهق وتنطق وحدها دون أي حديث ، تصوير " سمير بهزَان" يسترق النظر نحو التفاصيل ليؤسس للشخصيّات مُنذ المشهد الافتتاحي والكادر - البديع - لتلصص البطل على مدرسة وحتى لحظته الختامية التي يَجْمَع فيها الجميع في كادر "ضيّق ومخنوق" وسط خبطات الجيران .. مروراً بلقطات رائعة في دلالتها وتنفيذها .. كالمشهد الذي تتطاير فيه النقود من يد عوضين حتى تصل إلى مُحمّد .. والأهم من كل هذا قدرة "بهزان" على إيجاد "جمالاً سينمائياً" وسط كل تلك القسوة والألم الذي يمتلئ الفيلم بهم ، مونتاج داليا الناصر هادئ ومُتماسِك ومتفهم لروحِ الفيلم ويحافظ على تواصل المُشاهد وتماسه مع بطله في كل لحظة وهو إنجاز كبير بالنسبة لفيلم لا يقوم على حَبكة بقدرِ ما يقوم على شخصيّة وتفاصيل ومَشاعر كامنة ، موسيقى (العبقري) هشام نزيه تَمْنَح الفيلم شاعرية مُفرطة في اللحظات التي نَسْتَمِع فيها للبيانو .. لحظات تبدو أشبه بالهرب من قسوة الفيلم ومشاركة لأحلام ومشاعر مراهقه البطل أو للتعبير عن علاقة الحب التي جمعت بين الأم فاطمة - سوسن بدرفي أداء شديد النّضج - والمُدرّس منصور - محمود حميدة- ..
وإن كان من شيء يؤخذ على الفيلم ويسلبني جزءً من روعته ، فهو جنوحه أحياناً نحو كليشيهات محفوظة في التعامل مع الجماعات الدينيّة وأسلوبها ، شيء كان أشبه بالتراث السطحي الذي تركه وحيد حامدلصورة الشخص الأصولي ، وﻷن فيلم عاطف حتاتة بعيد عن الكليشيهات ويقترب بصدق من كل ما يتحدّث عنه ، فإن هذه الصورة النمطيّة تُزعجني دوماً عند تذكر الفيلم وتقلّل من اكتماله ، ولكن خلاف ذلك فهو بالتأكيد واحد من أفضل وأهم الأفلام في السنواتِ العشر الأخيرة ، وربما لا يوجد فيلم آخر يضاهي في مُحاسبة/الحديث عن التسعينات ..