ما بين مطالبات الرحيل وذكريات أهالى الشهداء عن أبنائهم وأخبار التفاوض والمحادثات تظل آلاف القصص فى أرجاء الميدان.. هناك حيث عرف العالم أهل مصر حقا وعرفوا هم أنفسهم والتقوا حقيقتهم بعد طول غياب..
بجوارى جلس ليرتاح من تعب ظهر بوضوح على قسمات وجهه .. اقترب منى ليفتح حوارا فنظرت الى صورة جمال عبد الناصر على صدر جلبابه المتواضع ولافتة أخرى كتب عليها بخط جميل "لا تجعلوهم يسرقون ثورتكم" بسرعة بدأ حديثه بلهجة جنوبية محببة قائلا :" اللى حصل ده اتأخر قوى يا ابنى بس الحمد لله انه جه..انا عندى خمسة وستين سنة وبقى لى هنا تمانية أيام وجاى من بنى سويف وهامشى النهارده البركة فيكم انتم تكملوا"..أكملنا تعارفنا فأخرج لى من كيس بلاستيكى يحمله اعداد قديمة من صحف وأشار الى اسمه الذى يذيل قصائد عامية فى غاية الروعة لاكتشف ان اسمه جمال عبد الناصر
شاهدتها للمرة الأولى فى ساعات هجوم البلطجية من ناحية المتحف المصرى كنت حينها أساعد فى نقل المصابين الى نقطة شرطة عسكرية حولناها الى مستشفى ميدانى لفتت نظرى حينما وقفت فى طريقنا وحينما عدت مرة أخرى وجدتها تمشى مستندة الى عكازها لتناول المياه الى الواقفين فى الصفوف الأمامية وبعدها بيومين اقتربت منها وبدأت أسألها عن سر اعتصامها هنا وبقائها كل هذه المدة فأخبرتنى أن ابنها استشهد فى أحداث الجمعة وأنها ستظل هنا حتى يعاقب كل من كان سبب فى ذلك حتى لو لم يبق فى الميدان غيرها فالأمر أصبح ثأرا شخصيا.
وقف بجوارى صديق انجليزى جاء ليشاهد الأحداث عن قرب فاقترب منا طفل يسألنى :"هو جاى منين؟" فأجبته فضحك بطفولية وقال :"الله عليك يا مصر وانت لامه العالم"
خرجنا سويا من الميدان باتجاه شارع قصر العينى استوقنا اثنين من ضباط الجيش فى كمين ليدخلا معنا فى حوار طويل حاولا اقناعنا فيه أن مبارك شخص طيب ومسالم وان من حوله يتحملون مسئولية ما جرى وأن الرجل أفاق وبدأ التغيير ولا يحق للولد أن يؤدب ولده أو أن يطرده من المنزل لخطأ عابر ارتكبه فرد صديقى: خطأ واحد؟؟..يبدو أنك لا تحسن العد انها ثلاثين عاما وأوان الصبر قد فات.. من يلف نفسه بالفاسدين هو فاسد أكثر منهم
نظرت الى صورة الشهيد أحمد بسيونى المعلقة بأحد جوانب الميدان وأطالت النظر ثم عادت لتقول لى أنها عملت فى يوم من الأيام معه ولم تكن تتصور أن ثمن الحرية باهظ الى هذا الحد وأطلقت تنهيدة طويلة أعقبتها بدعاء أن يتحقق ما استشهد بسيونى وهو يتمنى أن يحدث
سألنا حازم شاهين عن الأغنية المفضلة لنا من أغانى الشيخ امام التى نريده أن يغنيها لنا ونحن نرد عليه بسرعة "صباح الخير على الورد اللى فتح فى جنانين مصر" بينما كان الرجل الذى يقف بجواره ينظر اليه باعجاب شديد ويردد بين الحين والآخر"قابلت أبوك فى اسكندرية يا حازم ومكتوب لى أقابل ابنها هنا وفى الايام دى" بينما الرجل الملتحى بجواره يحتضن العود فى سعادة غامرة.
بلحية طويلة ومظهر يدل على كونه سلفي جذبنى لأتبادل معه الحديث فسألته عن سر نزوله الشارع على الرغم من فتاوى شيوخ السلفية بعدم جواز الخروج على الحاكم فصمت لفترة طويلة ثم أجاب أنه تغير كثيرا بعدما تعرض له من تعذيب فى أحد أقسام الشرطة ثم ضحك قائلا : أنا سلمت على واحدة متبرجة النهارده..والله لو فيفي عبده نفسها طلعت تهتف وتقول الشعب يريد اسقاط النظام لأهتف وراها ثم سألنى : هو مفيش أخبار عن المؤتمر الصحفى بتاع أوباما؟
كان باديا منذ اللحظة الأولى أن الأوامر صادرة لأفراد الجيش بعدم اطلاق أى رصاص مهما كانت الظروف لكن الدقائق العصيبة التى عاشها الواقفون على منفذ شارع طلعت حرب تحت سيل الطوب وزجاجات المولوتوف ليتساقط عشرات القتلى غارقين فى دمائهم ويستفز المشهد ضابطين فتنزل الدموع من عينى أحدهم لحيرته بين الدفاع عن المتظاهرين وخوفه من مخالفة الأمر العسكرى بينما يبدأ الضابط الآخر فى اطلاق رصاصه فى الهواء ويأتى بعدها القائد ليجرده من رتبته أمام الواقفين الهاتفين له
دخلت الى الميدان مستندة على عصاها..انها هى..نوال السعداوى وللمصادفة جاءت وقفتها بالقرب من الشيخ صفوت حجازى ليهتفا سويا "الشعب يريد اسقاط النظام"
كان ثلاثاء حاشدا وفى موعد صلاة الظهر اكتظت جنبات الميدان بالمصلين وتجنبا لافساد الصفوف وقف أحد الشمامسة بزيه البراق ينظم السير حتى لا يصطدم المارة بالمصلين
دخلا مسرعين من شارع جانبى حاملين علب البلح وهما يهتفان بمرح "اوعى الكنتاكى السخن..معانا الاجندات الخارجية"
أنهوا حراستهم لأحد الشوارع المهمة فى مدينة دمياط وقرروا صلاة الفجر على صفحات الجرائد فى الشارع وما ان انتهوا من اقامة الصلاة خرج راعى الكنيسة ليستحلفهم بالله أن يدخلوا للصلاة فى ساحتها ليجدوه قد فرش لهم الساحة ووقف ينير لهم الطريق.
(عن موقع الدستور)