كتب المخرج والسيناريست أحمد عبداللهعلى مدونته الخاصة سارداً مشاهداته لقرية أطفيح التي شهدت الفتنة التي تفجرت بين المسلمين والمسيحيين خلال الايام الماضية قائلاً :
ليست مصادفة أن أتأمل في صمت من شباك السيارة -بينما نحن ركوب لأطفيح – مشاهدا التلة الصغيرة التي يعتليها هرم سنفرو المحدب، و و لم يكن من محض الصدفة ما مر بذهني في بداية يوم الأمس حول هذا الهرم.. كونه محدباً- نتيجة لخطأ معماري ما -أو ربما تسرع بالغ من صناعه، انتهى به إلى هذا الطور.فاستدعى الأمر مهندسيه أن يستميتوا لاصلاحه بوضع دعامات خشبية لتدعم غرفة دفن سنفرو، التي قيل أنها لن تتحمل ضغط الهرم على ذاته محطمة الغرفة المتوفي..الذي انتهى إلى أن دُفن خارج هذا الهرم في نهاية المطاف، يبدوا أنهم لم يثقوا تماما في أن يظل هرما بهذا الخلل قائما، فكرت في هذا و أنا أعبر و أتساءل: كيف استطاع هرم بخلل معماري يجعل حوائطه تعتصر ذاتها تدريجيا أن يظل قائما، لآلاف السنين.. ثم عبرَتْه السيارة سريعا.
دخول أطفيح كان سهلا يسيرا، باستثناء نظرة الأهالي لنا كشباب الثورة القاهريين الغير عارفين بالحال إلا أن الكل لم يتوان في شرح ما حدث في بلدتهم خلال الأيام الفائتة، لم أكن أعرف مسبقا تركيبة هذا الفوج الذي قرر السفر لأطفيح في هذا اليوم، لكنني قررت تنحية خلافاتي جانبا و مشاهدة القرية و معرفة ما حدث من الناس، و ربما محاولة الإصلاح مع اصدقاء.
بيت لقبطي متيسر الحال كان أول الداعين، بقيت مع الناس أسمعهم لخمسة دقائق ثم خرجت من المبنى، كان أغلب الحديث تليفزيونيا عن الأخُوّة و الوحدة و ما شابه. فضلت بعدها أن أحادث الناس في الشارع ما استطعت إلى ذلك سبيلا.
صديقة لي صعدت لمحادثة إحدي سيدات الدار، كانت مسيحية، أرتها منشورا حصلت عليه فيما بعد، يوزعه المسلمون في القرية حول الكنيسة، قالت صديقتي أن الأمر عمومه مرتبط بأعمال سحر و شعوذة قال المسلمون أنها تمارس في الكنيسة حسب المنشور الموزع.
و أردفت ممصمصة شفاها: قادر يا يسوع..
سيرا على الأقدام علمنا أن ندوة الشيخ محمد حسان دائرة الآن و ليست على مبعدة، فكددنا المسير بينما يتبرع مواطن ليحدثنا عن أن المسلمين و المسيحيين إيد واحدة. دار حوار:
الشاب: شوف اللي حصل ده كله، و الحمد لله ولا مسلم مد إيده على مسيحي و لا مسيحي مد إيده على مسلم ، كلنا اخوات
أنا: بس هديتولهم الكنيسة
الشاب: آه ، طبعا..
أنا: انت لو عايش في امريكا و لقيت الجامع بتاعك المسيحيين هدوه حتعمل ايه؟
الشاب: يا كابتن اسمع الكلام مننا مش من التلفزيون، الكنيسة دي كانت كلها أعمال سحر.. لقينا فيها أسامي مراتاتنا و حريمنا، و قمصان نوم عليها أسامي اخواتنا البنات، و خمرة.. دول ما يقعدوش وسطينا..
كان موضوع السحر و الأعمال هي محور الحوار خلال سيري للندوة، لم أسمع حديثا شريفا واحدا، أو آية واحدة، لم يذكر احد الله أو المسيح أو السيدة العذراء .. فقط حديث مطول عن سحر، و طلاق متكرر في أسر المسلمين ، و نساء “حرنانة” و سايبة البيوت من السحر..
أخبرني آخر أن في اطفيح عشرات الزيجات تفشل بعد شهر أو شهرين، يتزوج الشاب فتاة طيبة من عائلته ما يلبث أن يجدها منصرفة عنه أو راغبة في الطلاق، و أن هذا من فعل أعمال السحر في الكنيسة، و قالوا لي أن هناك كوافيرة مسيحية اعتادت تصفيف شعور العرائس، كانت بلا شك تأخذ بعضا من شعرهن لتقوم بأعمال في الكنيسة.
سرت حتى موقع الندوة حيث اعتلى الشيخ محمد حسان شرفة دار مترامية الأطراف محييا المئات الذين احتشدوا فيباحة البيت. كنت بعيدا لم استطع الاقتراب من فرط الزحام، شاهدت من مكاني محمد حسان واقفا في المنتصف على يساره أحد لواءات الجيش، و على ميمنته صفوت حجازي أحد رموز الإخوان المسلمين، ما أن شاهد الناس طلته حتى هتفوا: الله أكبر..
الشيخ حسان أخذته الحماسة فرفع ذراعيه متشابكتين مع ذراعي صاحبيه. كان مشهدا غريبا. الجيش والاخوان و يتوسطهم داعية يرفعون الأيدي و الناس تكبّر.. نظرت حولي وجدتني قد فقدت أثر أصدقائي، لكني وجدت صديقا لم احادثه منذ سنوات يبدو أنه حضر وسط الشباب، لم أجد في ذهني أكثر ذكاءا من سؤالي له: ايه رأيك في اللي انت شايفه؟
قال: المنظر ده أكثر منظر مرعب شفته من ٢٥ يناير..
قال لهم الشيخ حسان أن يعاهدوا الله أن يحموا الوطن، قالوا نعاهد..
قال: عن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم “أيما رجل أمن رجلا على دمه ثم قتله فأنا من القاتل بريء وإن كان المقتول كافرا”.
كان الناس سعداء يؤمنون على كلام الشيخ. قلت لصديقي أن هذا ليس جل الأمر، فلم يحدث قتل و لا احتكاك مباشر بين الطرفين هنا، و الأزمة ليست مرتبطة بكونهم أقباط بقدر ما أشيع حول ممارسات سحرية ينتهجونها، يبدوا أن كافة هذا المجتمع تؤمن بها بشكل أعمى! عموم من قابلنا من الفلاحين و البنائين، قابلنا بعضا من برجوازية صغيرة و ملاك أراض لكن لم يتغير المعتقد كثيرا.
حسان لم يتطرق من قريب أو من بعيد لمسألة السحر و الخزعبلات، لا أدري هل لإيمانه بهما، أم لعدم معرفته لِكُنه الأزمة.
خرجنا ننتظر بالخارج، لا أكاد اسمع شيئا سوى أن الكنيسة ستبنى، لكن خارج القرية، لانها وسط بيوت مسلمين و لن يسلموا من الأعمال و السحر.
سألت أحدهم إن كان قد شاهد السحر، قال أن “الشباب” قد رؤوه، سألت شباب كثر أن يتطوع أحدهم بصورة لما عثروا عليه، لم أجد أحدا لديه، و لكنهم أكدوا أنها أحراز موجودة لدى أكابر العائلات.
حاولت صديقتي عبثا تذكيرهم أن مثل هذه الأشياء قد تضعها جهة ما تريد اشعال الفتنة داخل الكنيسة، و الأمر ليس صعبا، قالوا لن نسكت على رؤية اسماء نساءنا على ملابس داخلية و على وريقات كتب عليها اسم السيدة و زوجها و اسم أمه، و لم أتعجب عندما حاوَرَت صديقتي احدى النساء المسلمات التي أكدت أنها كثيرا ما كانت تذهب لتقيد شمعة للسيدة العذراء، و تطلب حاجتها و تترك ورقة باسمها و اسم زوجها و اسم أُمّه كعادة المصريين في الدعاء، تعلم نساء القرية أن عددا كبيرا من “اسماء النسوان” التي وجدت هناك لا تعدوا أن تكون من هذا المصدر.
نساء طيبات أوقدن شمعة للعذراء متمتمين دعاءا ما…
بعد فترة وجدت منشورا آخر، مكتوب بعربية ركيكة لحد الهوان، صورته بالهاتف، يؤكد مسألة الملابس الداخلية، و يرد على كلام “زوجة القسيس” و لا أعلم ما هو كلامها و لا أكترث كثيرا الحقيقة، قال من جملة ما قال:
من اللافت أن كاتب المنشور قد صدّر المهن “الراقية” بـ “ضباط البوليس” قبل الأطباء و المعلمين. رغم أن المنشور مطبوع منذ يومين علي اقصى تقدير.
في خضم ذلك أعرف أنني لن استطيع نسيان سيدة ثلاثينية قاهرية حمقاء، بينما كان الشباب ينتفضون ثائرين مرتعبين من قوة اعمال السحر التي فرقت بين زوجاتهم، أخذت تحاضرهم عن حكومة شرف، و قالت بصلف تحسد عليه” شرف ده لو مشي مش حتعرفوا تلاقوا ضفره”! و قالت ايضا: “ يعني انتوا عاوزين توقفوا لنا الثورة في مصر؟” مما حدى بشاب لسحب جلاليب الشباب محركا إياهم و هو وقوف معنا قائلا لهم: “ دول شباب من القاهرة من بتوع الثورة مش داريانين بحاجة” ، الحقيقة اللحظة الوحيدة في اليوم اليوم التي جاءتني الرغبة في السب و الشتم عاليا كانت تجاه هذه القاهرية الثورية.
هموم أهالي أطفيح لا علاقة لها بالطائفية، فلا هي هبة للإسلام، و لا تقليلا للنصارى، و الحق أنه لم يتم أي اشتباك جسدي بين الطرفين في أي وقت، و لكن ما طفى على السطح هو خلاصة سنوات من الجهل، و تغييب العقول، و ترك الدولة و المجتمع المدني للقرى – و المدن أحيانا- تسحقها الخرافات و الغيبيات في غياب أي أمل حقيقي للناس لصناعة حياتهم كما يتمنوها، عشرات حالات الطلاق بعد ايام من الزواج، و نفور النساء هي تبعيات لأزمات أوضح من الشمس، لكن تُفَضّل عقلية الذكر على عدم الخوض فيها و إحالة قلب المشكلة إلى غيبيات و تحميل “الآخر” شماعة نواقصنا كعادة أصيلة.
المرض بين جدران القرية ساكن، عشرات الجرذان تسبح المصرف الصغير الذي يشق القرية و تجري بين الأطفال. مناخ لن يخلق زيجة صالحة، و لن يخلق حبا لسنوات، فقط بَغْض و كراهية يغذيه الجهل ما استطاع.
الآن أخرج و أنا أعلم علم اليقين أنني أكره نظام مبارك كما لم أكرهه من قبل. أمرض الناس، و كبتهم في كل المستويات لعقود، آثر ألا يعلمهم، آثر ألا ينورهم ، آثر أن يترك الحال على ما هو عليه طالما استطاع اسكاتهم بفتات هدايا يهبها مرشح الانتخابات للاسر الفقيرة.
و أرى الشاب ابن العشرين حزين على طلاقه من زوجته، و لكنه لا يعرف سوى الهدم… فهدم الكنيسة، و صلى في رحابها.
و أنا عائد كان الجو ليلا، لم استطع مشاهدة الهرم، و لكن كانت النجوم كمعطف من لآليء. خيل إلي أن شبح الهرم يبدو من بعيد. سعدت حينما تخيلت أنه لازال قائما رغم الخطأ المعماري الفادح، و أن الغرفة بداخله لا زالت سليمة.
شاهدت شهابا اجتاز السماء في ومضة عين، تفاءلت، تمنيت أمنية لوطني، أمنية لفتاة أحبها، أمنية لنفسي.. علِّي أجد أيا منهم قد تحقق.