كانت الصورة مُفزعة وغير مألوفة ، عشرات الآلاف من الشباب قد خرجوا إلى الشوارع ، يُدَوّي هتافهم في أرجاءِ وطنٍ عربيًّ كامل : "الشعب يُريد إسقاط النظام" ، قبل أن تتداخل على التوازي : عربات الأمن المُصَفَّحة الآتية من بعيد ، صوت الرُّصاص الحَيّ الذي يُطلق على المُتظاهرين العُزّل ، صرخات الثوَّار لأجلِ شهيدٍ جديد ، كان دخَّان القنابل يَطْغَى على الشاشة .. قبل أن تبعث من بين كل هذا صورة شاب في حوالي الثلاثين من عُمره .. يقف رافعاً لافتة كُتِبَت بخطًّ عربيًّ مُبين : " لا خوف بعد اليوم" .
قبلها بعدّة أسابيع ، كان كُل شيء قد بدأ ، حين صَفَعت شرطيّة أمن بائع تونسي جائل في إحدى القُرى الفقيرة ، ليَخْجَل ويرفض ويَثور في ذاته ويحرق جَسده الطاهر في الشوارع التونسية ، ويُوقد روح الثورة بداخل الجميع ، ليكتبوا بدمائهم فوق جدران البيوت وعلى أرصفة الشوارع : "لا خوف بعد اليوم" .
والثورة كانت - قبل كل شيء - عن تحدّي الخوفِ .. بقدرِ ما كانت عن انبعاث الأمل .
وفي كُل مرّة كنا نصرخ فيها في القاهرة بسقوط النظام ، ونتحدّى "الخوف" ، كُنا نتذكر أحرار تونس الذين كانت ثورتهم - وثورتهم فقط - هي الباعث الحقيقي للأمل بداخلنا ، وفي فيلم المخرج التونسي " مراد بن شيخ"الذي عُرض في مهرجان كان احتفالاً وتقديراً للثورة التونسية .. كان كل ما يتحدّث عنه ويرصده هو لحظات التحرّر من الخوف والتي تزامنت مع ميلاد الثورة .. التونسيّة والمصرية على حدًّ سواء .
وبالمثلِ : فإنني أذكر كلمات صديق كان يقف بالقُربِ منّي في الصّفوف الأولى على كوبري قصر النيل عصر يوم الثامن والعشرين من يناير ، كنا نتحدّث عن الخوف وأننا كنا أقوى بوضوحٍ منهم ، فردّ أنه ظل يشعر بالخوف .. ويتذكّر حياته وأحلامه وكل ما يمكن أن يفقده خلال لحظات .. يفكر في أن دماءه قد تذهب هباءً وأن هذه الثورة قد لا تستمر ويعود كل شيء على حاله ، قال أن الأمر لم يكن سهلاً .. حتّى رَمى أول "طوبة" على عَربات الأمن المُصَفّحة .. ورآهم - رغم القنابل المُسيلة ، ورَشَّاشات المياة ، والرُّصاص المطّاطي والحيّ - يَجرون من أمامه ، وقتها شعر أنه "لا خوف بعد اليوم" .
وبالمثلِ أيضاً شعرت ، يوم موقعة الجمل .. اقترب البلطجيَّة من الميدان لدرجة غير مسبوقة ، صاروا على حدود مدخله من شارع طلعت حرب ، كنت أرى الأسلحة البيضاء والسيوف المرفوعة ووجوة لم تكن تُشبهنا ، كُنتُ خائفاً ومُرتعباً .. حتى صَرخت/صرخنا بكل ما بداخلنا من إيمانٍ بدمِ الشهداء وتلك الثورة ، وجرينا نحوهم .. عُزَّل ، وللدهشةِ قد جَروا ، وفَرُّوا بخوفٍ ، في حينِ لم يعد بداخلنا - نحنُ - أي خوف .
كنت أتذكَّر وأفكّر في كل هذا ، وأنا أقرأ وأشاهد أحاديث المخرج "مراد بن شيخ" ولقطات من فيلمه ، وأرى كم تشابهنا ، كم أن الوجوة مألوفة ، وللدهشةِ مرّة أخرى .. فقد خُيّلت بأنني قد رأيتُ نفسي في إحدى لقطات فيلمه .
يتتبّع مُراد في فيلمه التسجيلي الأول ، وعبر ثلاثة وسبعون دقيقة ، ثلاث شخصيّات رئيسيّة تحمل روح "ثورة الياسمين" : الناشطة السياسية راضية نصراوي ، الإعلامي كارم الشريف ، والمُدَوَّنة لينا بن مهنى ، ليبدأ التصوير قبل أيام من سقوط الطاغية التونسي "زين العابدين بن علي" ، وينقل رَوح الثورة في الشوارع التونسية ، ويستمر على مدارِ ثلاثة أشهر مُتابعاً لثورةٍ لم تنطفأ ، محاولاً استكشاف - بقدرِ ما هو توثيق - التحوّلات العميقة التي يمرّ بها المجتمع التونسي بعد نيله حُريّته .. وبعد إلهامه لشعوبٍ عدّة كي تنال حرّيتها .
وفي نهاية فيلمه ، ومع وقوف مُشاهدي كان تصفيقاً وإجلالاً لثورة الياسمين العظيمة ، كَتَبَ "مراد بن شيخ" على شاشة سوداء إهداءً : "إلى كل الذين ناضلوا ولم يعيشوا حتى هذه اللحظة" .
إلى خالد سعيد ومحمد بو عزيزي وكل دَمّ شهيد سال فوق أرضٍ عربيّة ، إلى كُل من حرَّرونا من الخوف .. فصرنا لا نخاف بعد اليوم .