بسكاليا (3-3): الثورة في زَمن يُسري نصر الله

  • مقال
  • 05:13 مساءً - 14 مارس 2012
  • 2 صورتين



صورة 1 / 2:
يُسري نصر الله
صورة 2 / 2:
صورة أرشيفية من أحداث محمد محمود - نوفمبر 2011

غُرفة المونتاج المُكَيَّفة ، على الرغم من برودَةِ تِلكَ اللَّيلة من شَهر نُوفمبر ، تكادُ تُكَسّر عِظامه ، يبقى وحيداً هُناك ، كعادته دائماً ، ويُشاهد المادَّة التي تم تصويرها من الفيلم خلال النّهار ، المُظاهرة المليونيَّة لـ"تَسْليم السُّلطة" ، يُتابع الصّور ، يُدَقَّق في كُل كادر ، من الصَّعبِ إيجاد ولو ذقن واحدة غير حليقة ، جُمعة "قندهار" أخرى ؟ ، يَبحث في المواقع الإجتماعية ، وشاشات التلفزيون ، عن أي أخبار تخصُّ الوضع في الميدان الآن ، الاعتصام المَفتوح الذي دُعِيَ إليه حتى يتم تنفيذ مطالب الثورة ، لا شيء ، فقط بضع عشرات تبقوا ، كعادة كل مَرّة خلال الأشهر الأخيرة ، يُعِيدُ النَّظر إلى شاشة المونتاج أمامه ، عَلَم السعوديَّة ، راية سوداء كُتِبَت عليها الشّهادة ، هل هذا هو ما ظَن أنه سيصوَّره خلال تِلك المرحلة حين بدء الفيلم ؟

40 وَرَقَة كَتبها في أسبوع ، ثم أشهر مُتتالية مِن الإرهاق ، مئات الساعات من المواد المُصَوَّرة ، ليال طَويلة وحده بداخل غُرفة المونتاج ، يُحاول حَلّ أُحْجِيَة الثَّورة ، من أين تَحَرَّكنا ، إلى أين سنصل ، وماذا سيتغيَّر ، أو يتبقَّى ، فينا بعد كل هذا ، كانت الصورة واضحة حين بدأ ، يعرفُ جيّداً ما يُريدُه ، ويُبْصِر الطَّريق الذي يَتجه إليه الفيلم/تَمشي فيه الثَّورة ، ومع الوقت بدأ الضَّباب ، ثم تَزايد كُلَّما تقدَّم ، حتى لم يَعُد هُناكَ غَيره .

يَفْتَح أول مَشهد صَوره في الفيلم ، قبل سَبعة أشهر ، فتاة تَرسم الجرافيتي في شوارع وَسط البلد ، يَتذكَّر وقتها ابتسامته لـ" منة شلبي" التي كانت تقوم بالدَّور ، بادلته الابتسام دون أن تفهم ، ولكنه كان يُفكَّر حينها أن بهذا المُعَدَّل الذي تَسِير به الأمور ، ستصير جُدران القاهرة كُلها لَوحات جرافيتي مُتتابعة ، للشُّهداء ، ولأحلامهم .

الأحلام كانت مُبرّر كُل هذا من البداية ، طوال الساعات التي قضاها بين الشوارع يوم 28 يناير ، حتى وصل إلى الميدان ، كان يُفكّر في السبب الذي دَفع العَشرات ، ثُم الآلاف ، ثُم الملايين ، من حوله في النّزولِ ؟ ، كَيف حَرَّكهم الوَعْي الجَمعي نحو أفعال مُوَحَّدة دون أن يعرفوا إلى أين يُفضي كُل هذا ؟ ، لَم يجد الإجابة حينها سوى في نَفْسه ، حيث شعر أن كُل أمنية تمناها ، كل فيلم لم يُصَوّره ، كُل صديق صَدَّق أنه لن يره مرَّة أخرى ، كل ما ظَن يوماً أنه لن يُحَقّقه ، كان يَنتظره هُناك ، وبدا أنه قريب ، وعلى الأغلب فإن كُل شخص آخر قد شَعْر بنفسِ الشيء .

هل كانت الثورة رومانسية إلى هذا الحد ؟ أم أنها الذاكرة ؟ ، يُفَكّر يُسري ، يُنظر مليَّاً إلى مِنّة وهي تَرْسُم الجرافيتي ، كانت هادئة ورائعة ، هذا كُل ما يَذْكره عن الثورة ، لم تَكُن الأمور وردية ، ولكن كان هُناك الأهم: كل الأحلام بدت مُمْكِنَة .

وكان الفيلم عن تَتَبُّع أحد الأحلام وهي تَكْبُر ، " ريم ومحمود وفاطمة" ، هكذا أسماه ، وأسْمَاهم ، على اسمِ أكثر من أحبَّهُم في حياته رُبما ، كان يَمْلُك أسئلة ، الكثير منها ، حينَ عَلِمَ أن أهالي نَزلة السّمان ، الذين نَزلوا إلى الميدان يوم مَوقعة الجمل ، وتم تصدير فعلتهم باعتبارها الاعتداء الأكثر عنفاً وهمجيَّة على الثورة ، كانوا قد باعوا أغلب حيواناتهم من الجِمالِ والأحصنة ، بأسعارٍ بَخْسَة ، لعدم قُدرتهم على إطعامها ، بعد توقُّف السياحة بشكل كامل أثناء الثمانية عَشر يوماً ، الصورة كانت في ذهنهم أن "الثورة" قد أفقرتهم ، وسَلَبتهم القليل الذي يملكونه ، وبالتالي ، فقد نَزَلوا وقتها بإيمانٍ ، للدفاعِ عن الأمن والأمان بالنسبة لهم ، والسؤال .. لم يَكُن كيف استطاع النّظام تجنيدهم ، دون وَعي ، ليصبحوا جُزءً منه ، ويربُط وجودهم بوجوده ، ولكن كان: أين سيصبح هؤلاء بعد الثورة ؟ وإلى أيّ جانب سَيَنْتَمُون ؟ ولمصلحة مَن تم تصديرهم كأعداءِ الثورة بعد نهار الثاني من فبراير ؟ وتجاوز صورة أكثر بَشاعة ودمويَّة قد جَرَت لَيْلَتها لقناصة يَصْطادون المُعتصمين من فوق أسطُح العمارات ؟

لَم يَكُن يملك أي إجابة ، هو فيلم يتحرَّك بالأسئلة قبل أي شيء ، مُحاولة الفهم ، الاستيعاب ، الاقتراب من "هُم" ، الذين قامَت لأجلهم الثورة وكانوا ضدَّها ، ليصبحوا "نَحْنُ" بكل الآمال التي وُلِدَت فينا ، ماذا سَيحدث ؟ ، ليس هناك إجابات ، فقط مَشاعر وأفكار ، ويقين كامل ، عن أن الثورة ستُغيّر في وجدانِ الناس ، ستُحَرّرهم من مخاوفهم ، وقرَّر أن يتتبع ذلك على مدار أشهر ، يرى شخصيَّاته وهي تتطوّر ، دون سيناريو ، فقط بالتفاعل مع كُل ما يحدث ، حتى إنتخابات الرئاسة ، التي يُفترض ، إن سارت الأحلام كما حَلِمْنَاها ، أن تُجرى خلال تِلك الأيام النُوفمبريَّة .

يُعيد النَّظَر إلى صفحات المواقع الإجتماعيَّة ، لا جديد ، صورة للميدان شِبة الخالي ، إلا مِن بضع عشرات ، يُحرّك الصفحة لأسفل في رَتَابة ، التَّعليق رقم 58 على صفحة "كُلنا خالد سعيد" ، الذي يَضَع صاحبه صورة الشهيد مينا دانيال ، يَقول في غضبٍ مكتوم: "عُدت من الميدان قبل دقائق ، بعد أن نزلت من البيت بنية الاعتصام حتى "تسليم السلطة" كما كان مُعلناً ، ولكني لم أجد أحد ، الشارع يسير الآن بشكل عادي ، المواطنون يشعرون بالسعادة لأن المليونية قد فشلت ، ومائة مُعتصم أمام المُجَمَّع سيَظلُّوا هناك لأسبوعٍ قبل أن يتم تفريقهم ، أشعر أن الثورة قد انتهت ، أمر مُحزن ، ولكن الأكثر حُزناً هو السؤال الذي يتردد في ذهني كل ثانية: لماذا قُمنا بها من البداية ؟ لأجلِ ماذا قدم الشُّهداء أرواحهم ؟ ، ثُمَّ: ما الذي سيبقينا هُنا بعد كُل هذا العَفَن ؟" .

ما الذي يُبقينا ؟ ، يُفَكَّر يُسري ، ووحدها كلمات "كفافيس" ، التي افتتح بها فيلمه قبل ثلاثة عشر عاماً ، حَمَلت الإجابة: "ستُلاحِقُكَ المَدينةوستهيمُ في الشّوارع ذاتها/سَيَدِبُّ الشّيب إلى رأسِك/وسَتَصِلُ على الدَّوام إلى تِلكَ الأحياء بعينها" ، يَكْتِبُ يُسري التَّعْلِيق رقم 59: "ومادُمْت قد خَرَّبت حياتُكَ هُنا/في تِلكَ البُقعةِ الصغيرة من العالم/فهيَ خراب أيْنما حَلَلْت في الوجود" .

فِي تِلْكَ الليلة ، أغلق يُسري المُكَيّف ، وكل الأجهزة الكهربائية الأخرى في غُرفةِ المونتاج ، نامَ على كُرسيه مُتعباً ، ولم يَكُن يعلم أن تِلكَ هي آخر مرَة سينام فيها ، لثلاث ليالٍ قادمة .

(2)

الحِلم كان نَفسه ، في كُل مرّة غَفا فيها خلال تلك الأيام ، يرى المَسِيح ، جاء من آخر الزّمان ، وشَقَّ ثائراً شارع مَحَمَّد مَحمود ، حتى وَصَل إلى المُقَدَّمة ، تَنَشَّق الغاز ، ورَمَى الطُّوب ، كانَ الجَمع من حَوْلِه كَثيراً ، ولَم يَكُن لَهُم ما يَأْكُلون ، فَخَاف عَليْهم من أن يَخُوروا ، وأتى بسبعِ خُبزات ، وَضَعَهم على الأرضِ ، ثُمَّ شَكَر وكَسَر ، وقدَّم إلى من حَوله ، وكان الآكلون نَحْوَ أربعمائة أو يَزيدُ قَليلاً ، فـأخذَ من بَيْنَهم بيدِ الأعمى ، إلى أوَّلِ الشَّارع ، وتَفَلَ في عَيْنَيه ، وَوَضع يَدَيه عليها ، وسأله: هل أبْصَرَ شيئاً ؟ ، فَتَطَلَّع وقال: "أُبْصِرُ النَّاسَ كَملائِكَةٍ يَمْشُون" .

فَتَح يُسري عَينيه ، أَبصر تلاميذه ، ولم يَرُهم ، حيث كانت كراسي القاعة فارغة أمامه ، نظر إلى ساعته ، وجدها العاشرة إلا رُبع ، يتبقى خمس عشرة دقيقة ، على مَوعد المُحاضرة التي يُلقيها في معهد السينما ، صباح يوم الاثنين .

الصفحة الشخصية له على تويتر لم تحمل أخباراً جديدة بشأن المعركة الدَّائرة في مَنْطِقةٍ أخرى من نفسِ المدينة ، منذ متى لَمْ يَرَ شيئاً كهذا ؟ ، حَضَر حرب لبنان في شبابه ، صَوَّر فيلماً ملحمياً عن فلسطين ، يعرف جيّداً رائحة الدَّم ، وطَعم الحُزن ، ما كان يَجْري لم يَكُن يبتعد أبداً عن ذلك ، في محمد محمود هُناكَ حرباً ، رِجال وملائكة ، في مَواجهة وحوش سوداء ، والحَقُّ واضح بينهم .

عدم وجود جديد ، جَعله يدخُل ، تلقائياً ، إلى صفحة "أحمد البحَّار" ، ويقرأ ، لمرةٍ لا يعرف عددها ، "التويتة" التي كتبها صباح أمس ، عن طَبيب الأسنان الذي فقد إحدى عينيه في 28 يناير ، وفَقَد الأخرى قبل يومين ، حين كان في الصفوفِ الأولى ببداية المَعركة .

"الناس بتكلم عن دكتور أسنان فقد عنيه فى مرحلتين ومستقبله راح ، لكن ده صاحبى أنا بتاعى أنا بتكلم عن حرارة اللى بيعتبر نفسه فرفور من المعادى ، أ*ا أمال مين البطل يا ع*ص أنا ؟ ،، امبارح أمه وقرايبه تكلمه من المغرب يروح " زى كل معركة راحها وهو بعين واحدة العباسية أو موقعة البالون " ، رد عليها قالها الناس كتير ، قلتله أنا الناس كتير بس إحنا اللى بنتفشخ لوحدنا والباقى مع*ص بيهتف ، قالى خليها ع الله .. أهو خليناها ع الله يا حرارة إيه النتيجة ؟؟ مفيش كلب مات منهم واللى مات وإتصابو مننا إحنا أنت مش هتشوف النور تانى مش هتشوف أمك تانى مش هعرف أعملك تاج لأنك مش هتعرف تحط كومنت .. ليه مجتش فيا وكملنا عور إحنا الإتنين ؟ أقسم بالله مكنت هزعل .. اه وألف اه يا صاحبى"

حين قرأها يُسري لأولِ مرة ، بدأ المَسِيح يَزوره حِين يَغفو ، ويأخذ ، في كُلّ مرة ، بيدِ الأعمى .

يَنْتَبه يُسري على صوتِ باب القاعة الذي يُفتح ، العاشرة إلا خمس دقائق ، أحمد أبو الفضل ، طبيب الأسنان ، والطَّالب في السنة الثانية بالمعهد ، يَدْخُل ، ويُسَلّم عليه في وِدّ ، يَجْلِس في مكانه على الكُرسي الأول من ناحية اليَسَار ، ولكن دون أن يحمل حقيبته المُعتادة ، يَسأله يُسري عن الميدان ، وهو يعرف بكونه كان هُناك دون معلومة مؤكدة ، فيجيبه ، باقتضاب ، أنَّهُ بخير .

أحمد كان قد قَضَى ليلته في الميدانِ ، وحيداً للمرة الأولى منذ بداية الثورة ، إلاَّ من أُنسِ الله ، وملائكته التي كادَ يُقسُم أنه رآها فوقَ شارع محمد محمود ، أحمد بَكَى كثيراً على أحد الأرصفة ، قُرب ساعات الفجر الأولى ، وهو يَشْعُر وكأن الثورة قَد بُعِثَت فيها الرَّوحِ من جديد ، وصَلَّى الفجر ، باكياً وشاكراً ، قبل أن يَلْحَظ أن الإمام الذي أقام الصلاة ، كان الشيخ عماد عِفَت ، الذي يَعرفه منذ أن حَضَرَ عنده ، قبل سنوات ، دروس دينية في الأزهر ، فذهب ليُسَلّم عليه .

أحمد لم يَكُن يعلم لحظتها أن يُسري أيضاً يَبِيتُ في الميدان على مَقربة ، قضى ليلته أمام "سفير للسياحة" ، في نَفسِ المكان الذي شاهَد أمامه جُثَث الشُّهداء المُتراصة قبل ساعات ، وصَمَّم أن يَظَلّ فيه ، لأنه كان يَعْرِف جيداً قَسَمات وجه الموت ، وقد رآها ، وجَزَع ، ولكن مِثْلَه كَمَثلِ كل من ظَلَّ في الميدان وقتها ، قرَّر المُقاومة ، وبقى ، يَسْمع من الشارع القريب أصوات المَعركة التي لا تتوقف ، سنوات عُمره الستين لم تُعينه على أن يكون مع الفتية هُناك ، ولكن في كُل هذا كان يرى انتصاراً للروحِ ، واستقواء بالحق ، وعودة للثورة .

وحينَ كان ، بين كُل ساعة وأخرى ، يَهتزُّ ويَسْتَقوى ، بعد أن يقرأ " أمال مين اللي بطل يا ع*ص أنا؟" ، لم يَكُن يُسري يَعلم أن البحَّار يَبيت ليلته في شارع محمد محمود ، بمعركةِ لا تنتهي ، ولكنها تزيد من كانوا هُناكَ إصراراً ، ومع الوقت .. استأنسوا الرَّصاص ، وتآلفوا مع الغاز المُسيل ، ومَنَحُوا حياتهم ، راضيين ، لِتلْكَ الثورة .

البَحَّار ، كان يُمارس الإحلال في كُلّ لحظة ، بين مشاعر اليأس والهَزيمة ويُبَدّلها بمشاعر الأمل والانتصار ، يُقرر ألاَّ يُحَمّل الثورة حُزنه ، وإنسانيته المسلوبة ، لا فقد من أحبهم ، ولا دموع الأقرباءِ عليهم ، لا عَينا حرارة ، ولا ساعات العَتْمة الكئيبة التي سيعيشها لبقيةِ عمره ، يَتسامح مع كل شيء ، وكل ما فقده من رفيقٍ أو شعور ، فقط لتبقى الثورة مُستمرة .

أحمد كان يَبْكِي الشُّهداء بين يَدَي الشيخ عِماد ، الذي رَبَتَ على كَتفه ، أخبره بأن تِلكَ آية عن القِلة القليلة التي تَغلب فئةً كثيرة بإذنٍ من الله ، وذَلِكَ فَصْلٌ عن الانتصارِ للحَقّ والرَّوح ، آنَسَه بقولِ عُمر بعد أُحِد "شُهداءنا في الجنّة وقتلاهم في النَّار" ، وذَكَّره بأنهم أحياءٌ عند رَبّهم يرزقون ، وتَمنَّى أن يَكْتبه الله مَعهم ، دون سواهِم ، وقال مُبتسماً ، أنه يَنْبَغِي لنا أن نَفرَح ونَسُر ، لأن تِلْكَ الثورة كانت مَيتة فعاشَت ، وكانت ضالَة فوُجِدَت .

هدأ أحمد ، وكان مرتاح البال ، ولذلك ، فحينَ سأله يُسري ، صباح اليوم ، عن الميدان ، تَحَجَّرت الكلمات في فَمِه ، وأجاب بكل ما يعرفه في تِلكَ اللحظة: "أنَّه بخير" .

العاشرة وخَمْس دقائق ، تبدأ المُحاضرة

(3)

لماذا نَصْنَع الأفلام ؟

لماذا كُل هذا المجهود الذي بذله في تَجربةٍ عَصيبة كتِلك ؟ ، "لأن الأفلام هي ذاكرة حياتنا" ، يُخبر يُسري طُلاَّبه ، يوماً ما ، بعد سنوات ، طالت أو قصرت ، ستتساقط منّي التفاصيل ، لن أعرف متى جرى كُل هذا ، ما كُنت أشعره أثناء حدوثه ، كَيف وصلنا إلى تِلْكَ النُّقطة ، الأفلام تَحْفَظ الذكريات ، تُبقيها حَيَّة .

قَرَّر يُسري أن يُنهي فيلمه ، بعد شهور طويلة من التصوير ، في نوفمبر أيضاً ، ولكن بدلاً من انتخابات الرئاسة ، سَيجعل الخِتام صورة أخرى ، في جُمعة 25 نوفمبر المُقبلة ، بالميدان الذي بدأ منه كُل شيء ، وبدلاً من الحِكاية التي أرادَ أن يحكيها ، عن تحرُّر الشخصية المصرية من الخوفِ ، استبدل ذلك بحكايةٍ أخرى ، أبسط ، يَوماً ما قُمنا بثورة ، ثورة عظيمة ، ولكنها سُرِقت مِنّا ، ولم نَستعدها سوى في مَحَمّد محمود .

لاحقاً ، في ساعةٍ أخرى من ذلك اليوم البعيد ، قابل أحمد أصدقاءه في الميدان ، ولم يَذهب إلى هُناك وحده مرة أخرى ، تَعِبَ البَحَّار ولم يَعُد يتقدم كثيراً للصفوفِ الأولى ، ولكنه بَقَى في محمد محمود طوال الوقت ، الشّيخ عِماد اصْطَحِب ابنه إلى الميدان ، وصُدْفَةً قابَلَ حَرارة الذي عَلِمَ أنه سَيفقد عينيه إلى الأبد ، فكان أول ما فعله هو العودة إلى مَكَانِه ، و يُسري نصر اللهانضم إلى مسيرةِ الفنانين التي انطلقت من أمام النقابة إلى الميدان ، ومَشَى إلى جانب إبراهيم أصلان ، و داوود عبد السيد ، و محمد خان ، الذين لم يَرُهُم منذ وقت طويل ، المَسِيح ظَل يَزوره في المَنَام كُلما غفا ، والثورة كانت مُستمرَّة .

لَم يَعُد يتبقى شيئاً من كُل هذا ، كان الليل ينقضي ، والهدوء يتراجع ، كما تتراجع الأحلام .



تعليقات