توقفت كثيراً أمام تقرير الزميلة دعاء رجب عن المنع في زمن الثورة، وأصابني هذا التقرير بإحباط ويأس شديدين، حيث اثبتت الايام أنها تعود للخلف، بل ولا تتوقف عند نقطة الصفر، بل تنحدر نحو السالب أسرع مما تخيلنا جميعاً.
الأجواء العامة في مصر تمر بحالة من الإرتباك الواضح، سياسياً وإقتصادياً وأمنياً، والشعب المشغول بقوت يومه، ومن يحكمه في نهاية الفترة الإنتقالية، ليكون قادراً على منع من يسرقه ومن يقتحم بيته ويسرق سيارته، لا يلتفت لمن يحاول الآن أن يسرق خياله، من يضع القيود قيداً تلو الآخر على الإبداع بحجة مخالفة الشريعة الإسلامية.
ولأن التيار الإسلامي المتشدد الموجود بكثرة على الساحة المصرية الآن يؤمن بأن الفن بدعة، وكل بدعة ضلاله، وكل ضلاله في النار، وبأن الفنانين مجموعة من الشواذ منحرفي السلوك، يقضون أوقاتهم في شرب الخمر ومضاجعة النساء في الطرقات، بينما يصنعون افلامهم ومسرحياتهم ومسلسلاتهم وروايتهم في أوقات الفراغ بين هذا وتلك، فيجب القضاء على الفن تماماً.
دون أن يلتفت أحداً منهم أو يحاول التفكير في أن الهبوط العام في الفن خلال الأعوام الأخيرة مرتبط فعلياً بهبوط عام في مصر كلها، نتيجة إنتشار الفساد، وإحتلاله كل ركن من اركان الوطن، فناً كان أم سياسة أم إقتصاد، وبالتالي يحكم العقلاء منهم على هبوط المستوى الفني ويطالبون بعلاجه عن طريق البتر.
وهنا لا أتحدث عن جزء من هذا التيار لا يرى في الفن إلا النصف السفلي من المرأة، وينشغل بمتابعة لقطات العري والألفاظ الخارجة دون إدراك لطبيعة الفن الحقيقية، لأن هؤلاء لا يعترفون أساساً بما يسمى فناً.
لكن الخبر الأخير حول قيام ساقية الصاوي آمس بمنع عرض مسرحية "ولسه" لقيام أحد أبطالها بـ"سب الدين" يبدو القرار الأشد تأثيراً بالنسبة لي، حيث تعتبر الساقية منفذا خاصا وليس حكومياً للإبداع، يقودها رجل يفترض أنه ابن أديب راحل، وهو نفسه وزير ثقافة سابق وعضو برلمان حالي، وبالمناسبة أنا هنا لا أدافع عن حق سب الدين، ولكن أهاجم محاكم التفتيش، التي تضيع مجهود فريق كامل وعام كامل من العمل، لأسبابها الشخصية.
وبذلك يصل المنع في زمن الثورة إلى الجهات الخاصة المثقفة، المعروفة بـ"النخبة"، بعد وصوله للبرلمان، والرقابة، والشارع ... وبهذا يلفظ الفن أنفاسه الأخيرة، إذا أكتفى اصحابه بإصدار البيانات الواحد تلو الآخر، دون تحرك حقيقي.
الشارع المصري الذي يرفض هذا الفنن هو من أقبل على عرض فيلم " شارع الهرم" ليحقق أعلى إيرادات في يوم واحد في تاريخ مصر، وهو الشعب الذي يشاهد قنوات "التت"، ويستمع شبابه إلى قنوات "ميلودي"، و"مزيكا"، وتغني راديوهاته بإذاعات ميجا اف ام، ونجوم اف ام، وهو ايضاً من يفضل سماع إذاعة القرآن الكريم، وهو من يتابع بشغف قنوات الناس والحكمة، وروتانا سينما.
الشعب المصري خليط ثقافي متعدد الابعاد وهذا سر عظمته، لذلك لا يجب أبداً أن نتوقف عند إتجاه واحد وفرضه على الإبداع، ويجب أن تتحرك شركات الإنتاج بل وتغامر وتطرح المزيد والمزيد من الافلام الحقيقية، ويجب أن تحتفل مصر كلها بوصول فيلم الرائع " يسري نصر الله" إلى "كان"، ويجب أن يكون هذا حافزاً لجميع مبدعيها للوصول للجائزة، بل وكل الجوائز العالمية، حيث أن السينما المصرية لا تقل عن مثيلاتها في إيران وغيرها.
الثورة كانت دعوة للتغيير، والتغيير على حسب معلوماتنا هو تقدم للامام، لا تأخر..... أزيحوا ايديكم عن الفن يرحمكم الله.