أحد أكثر الأفلام التي شاهدتها في حياتي شاعرية، هو رائعة المخرج أندرو دومينيك، والممثل براد بيت " اغتيال جيسي جيمس على يَد الجبان روبيرت فورد"، الذي قدماه عام 2007، في رؤية مُختلفة لأفلام الجَريمة والغرب الأمريكي، سواء بصرياً، في تصويرٍ بَديع من المُصور العظيم روجير ديكنز، أو سردياً، عبر تَتَبع علاقة الإعجاب والغيرة التي تَدفع روبيرت فورد لقتلِ مَثله الأعلى وقائِده المُحبّب جيسي جيمس، فقط ليشعر بنفسه "شخص ما" وليس نَكرة كما يدعوه الجَميع دائماً، حتى لو عاشَ بقية حياته في نَدَم.
وبعد خمس سنوات، يلتقي دومينك، في أول أفلامه منذ "جيسي جيمس"، ببراد بيت من جديد، في فيلمهم الذي يدور في عالمٍ مُعاصر، وينافس في الدورة الخامسة والستين لمهرجان كان السينمائي " Killing Them Softly".
ويبدو دومينيك في هذا الفيلم مُختلفاً عن الرؤية الشاعرية التي قدمها قبل عدة سنوات، حيث يَختار مُعالجة شديدة الواقعية، لحياة الجريمة السفلية في أمريكا، من خلال شخصية "جاكي كوجان"، المُتعقَّب الذي تُكلّفه إحدى العصابات بالبحثِ عن مجموعة من الأشخاص نَفذوا عملية سَطو على لقاء بوكر ضَخم في المَدينة.
ويَقول دومينيك أن هدفه ليس أن يقدم فيلم جريمة مُمتع، ولكن أن يحاول فِهم مُجتمعه بالصدمة: لماذا تزداد الجريمة؟ لماذا أصبح المجتمع يميل إلى العُنف؟ لماذا صار القَتل شيئاً عادياً؟ أين هي الحكومة الرئاسية من النشاطات غير المشروعة؟ وأين وعود الرئيس أوباما بتطهير البلاد من الفَساد الذي صار مُنتشراً؟
كلها أسئلة يتضمنها فيلم دومينيك، الذي يعتقد أن عمله بالأساس "ضِد الرأسمالية" التي تُحول الناس لـ"حيواناتٍ مُتوحّشة" ، حسب تعبيره، ويُضيف: "أفلام المُجرمين هي أكثر الأعمال التي يُمكن أن تصوّر التوحّش الاقتصادي بواقعية، لأنها تتناول أشخاصاً لا يُفكَّرون سوى بالمالٍ وحَسب".
ورغم ذلك، فإن الفيلم يحتفظ بتماسٍ مع سابِقه، تحديداً في شخصيات تُدرك مَدى فَداحة القَتل، مدى الشعور بالذنب الذي ستلاقيه في يومٍ ما بسبب ضَغطة على الزّنادِ، ولأن هذا صار واقعها الذي لا تستطيع الهرب منه، فكل ما تُحاوله هو جَعل القتل أخف وطأة، أقل ألماً ممكناً للضحايا، القتل برقة تَحمي الرّوح، القتل الذي يَحفظ للقاتل إنسانيته ، حين يُبقي الشّفقة بداخلِ قَلبه.
"أغلب الأفلام تصور الأمريكيين كما يريدون أن يراهم الآخرين، في فيلمنا هذا نحاول تصويرهم كما هُم" .. براد بيت/المؤتمر الصحفي للفيلم/كان 2012
امْتُدِحَ الفيلم عند عرضه بالمهرجان أمس، وُصِفَ بأنه "قاتم ومتماسك" ، ويقدّم رؤية صادقة لعالمِ الجريمة ، نَشعر فيها أن أبطالها هم الجيران على أولِ الحَيّ ، ضَاحِك أحياناً ، وحزين وشاعري في أحيانٍ أخرى ، وفي المجمل هو أحد أفضل أفلام الدّورة.
ربما لا يَكون فيلم سعفة ، ولكن أتمنى بشدّة أن ينال أندرو دومينيك جائزة أفضل مُخرج في خِتام المَهرجان ، ليُكرَّم عن رؤية مُختلفة لأفلامِ الجريمة ، لا يُضاهيه فيها أي مُخرج آخر.