أفلام الخيال العلمي.. وأبي

  • مقال
  • 01:04 مساءً - 23 ديسمبر 2012
  • 1 صورة



أفيش Le Voyage dans la Lune

دائماً ما عشقت أفلام الخيال العلمي والفانتازيا.. ما أذكره من الأمر من أيام الطفولة البريئة أن أبي – وهو من علمني بحبه حب السينما الغربية – كان يكره هذه النوعية من الأفلام لدرجة المقت! وكان يوبخني ويسخر من ذوقي كلما فاجأني أشاهد أحدها! لدرجة أن عشقي ومشاهدتي لهذه الأفلام وحرصي على عدم كشف أمري من قبل أبي الحبيب يمكنه أن يشعرك أني مراهق يشاهد فيلم بورنو أو شيء من هذا القبيل! عموماً تفضيلي للأمر من منحنى شخصي لا يشفع لي أن أكتب لكم عنه هنا لكن قد وجدت في الأمر مدخل ما لخاطرة سينمائية عن هذا العالم المبهر من الأفلام.

رافقت بدايات أفلام الخيال العلمي بدايات السينما ذاتها! أمر أراه طبيعي جداً فالسينما في وقت بدايتها منذ أن ابتدعها الأخوين لومير كانت نوع من الخيال العلمي في ذاتها تحولت من تصورات وأحلام ورؤى على ورق لحقيقة تبهر الجميع بانعكاس لصور حية متلاحقة على شاشة بيضاء كبيرة تولد من العدم! إلا أنه يمكننا أن نترصد بدايات سينما الخيال العلمي إلى العام 1902 وفيلم الفرنسي الآخر الأسطورة جورج ميلياز Le Voyage dans la Lune. الفيلم ويعني إسمه رحلة إلى القمر هو جمع فانتازي لعملين روائيين لاثنين يعدان بدون أي تفكير الآباء المؤسسين لأدب الخيال العلمي المعاصر وهما الفرنسي جول فيرن والإنجليزي هيربرت جورج ويلز والذين لم يؤثران فقط في مثال هذا النوع من القصص الخيالية وإنما ألهما المئات من العلماء وحتى اليوم بالكثير والكثير من الأحلام والآمال العلمية التي تحقق بعضها والبعض الآخر لازال في طريقه للتحقق! الفيلم ومدته 14 دقيقة استخدم ولأول مرة سينمائياً المؤثرات الخاصة وخدع المونتاج السينمائية ومثل حجر الأساس لواحد من أهم مضامير السينما العالمية.

في العام 1927 خرج لنا الألماني فريتز لانج بفيلم Metropolis والذي يعده البعض أهم فيلم خيال علمي على الإطلاق! السبب أنه (وأنصحكم بمشاهدته) يعد أكثر فيلم يستفيد من كل تقنيات المؤثرات الخاصة لهذا الوقت دون حواسيب خارقة وخلفيات زرقاء وخضراء والكثير من الـ1 و 0 الكهربائية بشكل مثالي مذهل ويضع هذا كله في إطار قصة حقيقية وليست تخريفة خيالية خالية من البعد الإنساني ويقدم لنا استشراقات مستقبيلة وروبوتات وباقة متكاملة مثلت بعد رائعة ميلياز التأسيس الفعلي لهذه الصناعة.

في أمريكا تعرض مسار تطور هذه الأفلام لنكسة حينما فشل فيلم Just Imagine في العام 1930 في تحقيق النجاح التجاري مع ميزانيته الضخمة في هذا الوقت مما جعل الاستوديوهات الكبيرة تتخوف من المغامرة مجدداً في هذا النوع من الأفلام الأمر الكارثي والذي جعل معظم انتاجات هذه الفترة من هذه الأفلام منخفضة الجودة والميزانية وربطها لدى الجمهور بشكل ما بالأفلام الرخيصة والتافهة! بالرغم من وجود عدد من الأفلام التي نجت من هذا الحال إلا أن الأمر استمر وحتى الستينات! حتى جاء حامل الراية الجديد سينمائياً ستانلي كيبريك في 1968 ليشارك واحد من أشهر كتاب الخيال العلمي باقتدار السير آرثر سي كلارك (هذا الرجل أسطورة حقيقية وهو وكل من إسحاق أسيموف وروبرت آنسون هاينلاين سموا بالـBig Three كآباء لهذا النوع من الأدب حتى اليوم!) يشاركه في كتابة الفيلم الأيقوني: 2001A Space Odyssey . هذا الفيلم كما وصفه تلميذ هذه المدرسة النجيب ستيفين سبيلبرج يقابل ما يسمى فلكياً وعلمياً الإنفجار الكبير أو الـBig Bang في أنه الذي خلق فعلياً الإعلان الفعلي والنهائي لحقيقة بسيطة وواضحة.. هذه الأفلام والخيال العلمي جاء ليبقى! السفر عبر الفضاء وأصل البشرية ومكالمات الفيديو وغيرها من مفاهيم الخيال العلمي وقتها جاءت في ميزانية ضخمة ومحترمة سمحت للمخرج الفلتة بإبداع عمل كامل الاوصاف به إمتاع آسر للعين وإعمال ذكي للعقل لدى الجمهور استمر أثره حتى اليوم. طبعاً أرجع الفيلم الاستوديوهات الكبيرة للعبة فقد حقق الفيلم نجاح مدوي في الصالات العالمية بالتالي مثل عودة الاحترام والسمعة المستحقة لجدية هذا الأفلام وأهميتها.

سأتوقف عن السرد التاريخي للفيلم لسبب أن الاساس هنا في المقال ليس العرض وإنما التأمل، ولأن التالي لهذه المرحلة تمتع بالشعبية الجماهيرية بما يكفي للاعتقاد أنكم شاهدتم كل إن لم يكن أغلب الإنتاجات الاهم لأفلام الخيال العلمي من الثمانينات وحتى اليوم.

هنالك فارق أساسي بين أفلام الخيال العلمي وأفلام الفانتازيا، الخيال العلمي هو خيال مصطنع يؤسسه توقعنا وأحلامنا لما يمكن أن نبدعه "علمياً" من واقع بينما الفانتازيا في الأساس مرتبطة بما لا يمكن للإنسان خلقه اعتياديا دون قوى خارقة أو ما ورائية سحرية. ثم أن الخيال العلمي مرحلي ونسبي للصانع والمتلقي على السواء بالتالي فهو خيال مؤقت حتى يتحول لواقع حقيقي، تخيل أن يكتب أحدهم أو يصور فيلم عن رجل يتحدث بالهاتف لشخص ما. مشهد معتاد في حياتنا اليومية وفي جيب كل منا هاتف جوال. لكن أن تقرأ عن هذا الاختراع العجيب لرجل يتحدث بشكل سحري لشخص حقيقي وليس شبح في مكان آخر كان نوع من الخيال العلمي في وقت ما!

السينما في رايي هي تعبير إبداعي بصري عن أحد أمرين: إما حالة شعورية أو فكرية ما، أو حلم وخيال لأمر لا يمت للواقع وإنما ينتمي لخيال صانعه. من هنا نرى أن أغلب الأفلام تنقل النوع الأول وهو شعور ما أو قضية أو رسالة محددة يرصدها المبدع من واقعه من وجهة نظر خاصة وينقلها "بصرياً" للجمهور بشكل فني إبداعي يجعل هذا الجمهور يشارك هذا المبدع زاوية نظره للموضوع محل النقاش ومن ثم يتفاعل وإياه بطريقته وخلفياته الخاصة. في أفلام الخيال العلمي او الفانتازيا ينقل المبدع ربما هذا الشعور والرسالة الإنسانية في ثوب من نسيج خيالي من حلم عاشه أو فكرة مرت في خاطره. وربما يأتي النقل دون رسائل بقدر نقل وصفي لمشهد ما لعالم ما ورائي أو لتطلع مستقبلي لحياة الإنسان.

لي هذه النوعية من الأفلام دائماً هروب جميل وإيجابي من الواقع السوداوي الذي نعيشه! في أوقات كثيرة أجدني مشبع بالعواطف والهموم الإنسانية. ومهما بلغ جمال الرسالة التي يحملها فيلم واقعي لا أجدني قادر على تحمل هذه الجرعة الإضافية من الصراعات الإنسانية أو النقل الوصفي لحياة الآخرين اليومية بلحظاتها الفارقة أو مشاعرها المتضاربة. لذا فانتقالي لعالم مخالف مختلف به القواعد الواقعية المعتادة والتي تأسرني وتقيدني مكسورة ومقلوبة! حتى القواعد والقوانين الفيزيائية منها! أمر مريح للأعصاب والمشاعر هو أن تجد هذا المتنفس الذي يقوي ويغذي ماكينة الخيال بداخل كل منا.. لي الخيال هو المحرك المركزي لتقدمنا كبشر. إفتقادنا للخيال يجعلنا شبه موتى نحيى كبهائم متلقية للصناعة مستهلكة لها دون حلم في حياة أجمل أو أسهل أو خير للبشر. الخيال هو ما قدم لنا الطيران وعلوم الطب المجهري والحاسب الذي تقرأ عليه كلماتي. الخيال هو الحجر الذي نبني به واقع أجمل وأفضل.

أبي كان مكتفي بواقعه راض به غير طامح في المزيد. كان ربما ككل الآباء حريص على استقرار واقعه لعدم رغبته في تعريض واقعه لخطر التغيير. أفهم أسبابه فاستقرار واقعه يعني توفير أرض لانطلاق مستقبل أولاده. لكن لا أفهم عزوف الشباب منا عن الخيال وارضه وصوره أفلام كانت أو روايات! لا داعي أن أمارس عليكم هذا التقريع المثير للغضب والسخيف عن كيف أن أطفال اليابان وكوريا الذين يتربون على مشاهدة البوكيمون وأفلام الفانتازيا والمانجا هم من يسودون العالم الصناعي اليوم في كل مكان! لكن تفهمون ما ارمي إليه. فقد أرجو منكم أن تدفعوا أبناؤكم دفعاً نحو مزيد من الخيال. نحو الغرق فيه. لا تقلقوا لن يكون غرق مميت فالواقع المقيت الجامد سيجد طريقه دائماً لإيقاظهم من أحلامهم وخيالاتهم وإعادتهم لسفينته المتهالكة. لكنهم بأحلامهم وخيالاتهم قادرين على الاستمرار في الحياة بنظرة أكثر تفاؤلا نحو هذا الواقع يقدمها لهم خيالهم وما يأملونه في هذا الواقع.

في إجازتي الأخيرة والتقائي مع أسرتي شاهدت فيلم من الخيال العلمي، حينما أحسست بوالدي يدخل الغرفة سارعت يدي لريموت التفاز لتغيير القناة، لا أدري احتراماً لذوقه أم خشية من سخريته من إبنه الذي لا زال يشاهد هذا النوع من الأفلام الطفولية وهو قد جاوز الثلاثين عاماً من العمر! لكنه طلب مني الإبقاء عليه هذه المرة!! شاهدنا الفيلم سوياً، بين إلتفاتة وأخرى بعيد عن شاشة التلفاز شاهدت أبي يحول عينيه بين نظرة إستخفاف بالهذي على الشاشة ونظرة انبهار واحترام لإبنه (الشحط). بعد الفيلم قال لي بصوته الحاني: يا محمد لو الأفلام دي اللي خلتك غير باقي البشر وعندك طموح وخيال.. اوعى تحرم أولادك منها..



تعليقات