قد يظن القاريء للوهلة الأولى - وأنا أعذره في هذا - أن هذا المقال سيشكل انتقادًا أو هِجاءً شديد اللهجة لفيلم تارنتينو الجديد " تحرير جانجو"، وهذا بالطبع بسبب العنوان المستفز.. ولن أندهش إذا تلقيت سيلاً من السباب والشتائم من محبي الفيلم/المخرج الذين سيكتفون بقراءة العنوان فقط كالعادة هذه الأيام. لكن في حقيقة الأمر، الموضوع مختلف نسبيًا عن هذا ويحتاج بعض الشرح، أما إذا أردت أن أعطيك رأيي الملخص قبل أن أنتقل إلى التفاصيل، فكل ما سأقوله لك أن "تحرير جانجو" لن يكتفي فقط بالاستحواذ على إعجابك، بل ربما يتخطى هذا ليصبح واحد من أفضل الأفلام التي قد تشاهدها على الإطلاق.
إذًا ما هي حكاية هذا العنوان السخيف؟.. حسنًا لهذا قصة.. منذ بضعة شهور، وأثناء وضعه اللمسات الآخيرة على "تحرير جانجو" صرح كوينتين تارنتينو أنه ينتوي التوقف عن الإخراج عند وصوله للفيلم العاشر!.. معللاً على ذلك أنه لا يريد لنفسه أن يصير مجرد صانع أفلام عجوز آخر. وأنه ينوي التوقف عند نقطة معينة لأن - في رأيه - المخرجين يصيرون أسوء مع تقدمهم في السن.. وأسوء الأفلام التي يصنعوها - حسب رأيه أيضًا - هي تلك الأربع الآواخر في مسيرتهم الفنية، وهو يرى أن فيلم سيء واحد يمحو أمامه ثلاثة أفلام جيدة.
أعتقد أنك فهمت الآن مقصدي الحقيقي من العنوان.. إنه ليس انتقادًا على الإطلاق، بل هو إلى التوسل الأنيق أقرب.. لماذا يا سيد تارنتينو؟ هل ترى مخرجًا آخر يصنع سينماه مثلك؟ هل هناك أصلاً أي أحد آخر مهتم بالأسلوب الكلاسي الذي تنتهجه في الإخراج؟ الأسلوب الذي يبرهن دائمًا أنه الأفضل، والأكثر شعبية، وأنه دائمًا ما يتفوق على كل البهلوانات السينمائية الآخرى؟.. إذا كان هناك واحدًا فأتمنى أن تدلنا عليه.. وحتى حدوث ذلك أتمنى أن تعدل عن هذا القرار.
والآن، دعنا ننتقل على الفور إلى عالم جانجو الصاخب، فيبدو أنني أطلت كثيرًا في هذه المقدمة التي لا لزوم لها.. الفيلم تدور أحداثه قبل الحرب الأهلية الأمريكية بعامين، حيث جانجو عبدًا أسود يحرره طبيب ألماني صائد جوائز بطريقة دبلوماسية لكنها أقرب إلى الإختطاف، وهذا في مشهد افتتاحي استثنائي حقًا.. ثم يعقد معه صفقة يساعده فيها جانجو في العثور على بعض الفارين من العدالة.. في المقابل يساعده الطبيب صائد الجوائز في إنقاذ زوجته من مزرعة وغد أبيض سادي يهوى تعذيب العبيد، عن طريق إقامة مباريات مصارعة بينهم حتى الموت. هذا هو كل ما سأذكره عن القصة ولن أزيد، حتى لا أتهم بحرق أحداث الفيلم مرة آخرى.
سيناريو الفيلم - أو بالأدق الحوار - شيء طازج تمامًا وأستبعد أن تسمع مثله في أي مكان آخر.. السيناريو يحمل البصمة شديدة الخصوصية الموجودة في كل أعمال تارنتينو والتي صنعت منه (أو صنع هو منها) أيقونة حقيقية.. المشاهد ذات الشحن البطيء جدًا، والتي عادةً ما تبدأ مرحة وهادئة، تتجاذب خلالها شخوص الحكاية حوارًا لا يعدو كونه دردشة تافهة، قد تكون بذيئة احيانًا، ثم تجد الجميع فجأة غارقين في دمائهم قبل أن تعرف متى وكيف ولماذا.. إنها بصمة حقيقية، وشديدة الإتقان.. أنت تتوقع من أي فيلم لهذا الرجل أن يسير بذات الأسلوب، وهو لا يخيب ظنك في كل مرة.
وكجميع أفلام تارانتينو يحتوي الفيلم على الكثير من الـ (جود شيت)... عنف، عري، دماء، تقطيع أوصال، نكات بذيئة، روح ساخرة.. ضف على هذا نمط السبعينات في الإخراج والتصوير والكتابة على الشاشة (هل رأيت مخرج مازال يستخدم الزووم إن والزووم أوت السريع؟). أكثر ما يميز تارنتينو أنه مخرج قديم الطراز.. مخرج تعرف يقينًا أنه لن يصنع فيلمًا أبدًا بتقنية الـ 3D السخيفة، مخرج يفضل المؤثرات الفيزيائية الحية، ويستخدمها بغزارة في أفلامه.. مخرج لا يطيق السينما الرقمية، وقد يعتزل بسببها الإخراج.. هذا ناهيك عن قطعاته الحادة المفاجئة في معظم أفلامه والتي قد تخرجك من الـ (موود) أحيانًا.. ثم ماذا عن استخدام مقطتفات من موسيقى ميريكوني الكلاسيكية التي دشنت أجواء الغرب الأمريكي، مصحوبة بأغرب كوكتيل ممكن سماعه من الأغاني والأنماط الموسيقية التي لا رابط بينها!
تارنتينو يجيد صناعة السينما حقًا.. ويعشق حتى النخاع الأفلام الرخيصة المبتذلة المليئة بأوغاد يقتلون بعضهم بعضًا مع كم وافر جدًا من الدماء، وهو يصنع كل أفلامه كتحية عظمى لتلك الأفلام.
بجانب جميع الألاعيب الإخراجية تلك، تجد أن هناك مباراة تمثيلية حامية الوطيس تدور على طول مدة عرض الفيلم.. كريستوف والتز في دور هو الأظرف في مسيرته، ويعد استكمالاً لنفس طريقة الأداء التي ظهر بها في "أوغاد مجهولون"، الشخص المرح اللطيف الذي يحمل بداخله شيطان حقيقي لا يعرف الرحمة، والذي يكسب تعاطف الجميع من رقته في المعاملة، خاصةً مع هؤلاء الذين سيقتلهم بعد دقائق.. جايمي فوكس في دور العنوان، العبد الهادىء الذي يكبح جماح نفسه ويستطيع السيطرة على كل عصب من أعصابه حتى في أشد المواقف صعوبة، لكنه ما إن يفقدها، يتحول إلى غول عاشق للإنتقام لا يرضى إلا أن يرى الجميع ممزقين إلى أشلاء غارقين في دمائهم.. ليوناردو دي كابريو الذي يسرق الكاميرا كلما ظهر، والذي مع كل فيلم جديد له تجد نفسك تتساءل، متى سيرضوا عن هذا الوغد الوسيم ويمنحوه الأوسكار؟. أما عن صمويل ل. جاكسون، فحدث ولا حرج.. أن يظهر الرجل في مشاهد قليلة لا تتعدى ربع الساعة في فيلم بهذا الطول، ثم يتفوق على الجميع لأمر يستحق رفع القبعة، وترشيح أوسكاري أيضًا (وهذا ما لم يحصل عليه).
حسنًا، كل هذا جميل ورائع، بل وأكثر من رائع، لكننا رغم هذا سنحتاج أن نستخدم عنوان المقال من جديد، لكن هذه المرة بهدف مختلف تمامًا.. وليس بنية المدح هذه المرة.
الفيلم يسير بخطى رائعة إلى ما قبل النهاية بقليل.. ثم ياتي التتابع الذي كاد أن يفسد كل ما ُصنع طيلة الفيلم. نعم، قد يكون هذا واحد من أفضل أفلام تارنتينو، لكن هذا لا يمنع أنه يحمل واحدة من أسوء نهايات الأفلام.
اختار تارانتينو أن ينهي فيلمه بتتابع طويل مرهق ممل لا لزوم له على الإطلاق، فالفيلم ينتهي فعليًا بعد المذبحة الأولى واستسلام جانجو المتبوع بإظلام مفاجيء.. المُشاهد لا يريد رؤية أي شيء بعد هذا.. إنها نهاية عبقرية.. لكن - وللغرابة - هذا ما لم يلتزم به تارنتينو.. بل استمر في تقديم مجموعة من المشاهد المفككة صنعها لمزاجه الخاص قبل أي شيء.. تلك المشاهد أتت أسوء ما في الفيلم.. لقد صنع الرجل طبقًا رائعًا من الحلوى، ثم سكب عليها ملحًا في النهاية.. كل ما ظهر على الشاشة بعد الإظلام لا يعدو كونه دعابات سخيفة زائدة الاستظراف، ناهيك عن المط والتطويل الذي لا داعي لهما.
لكن هذا لا يمنع أن استخدام القطع المفاجيء كان ذكيًا إلى حدٍ ما ويحمل مغزى ربما غفل البعض عنه.. كأن تارنتينو يؤكد بهذا الإظلام أن الفيلم انتهى فعليًا.. أعطوني أوسكار أو لا، لا يهم.. أما كل ما يتلو ذلك فهو جنوني الخاص، وعليكم أن تتحملوه.. سأريكم أي وغد مختل عقليًا أنا.. لن أنهي الفيلم إلا بمزيد من الدماء.. مزيد من الطلقات.. مزيد من الدعابات، سأحوله إلى (فيلم هندي) حقيقي.. أنا لا أخجل من كوني وغد، يحب الأوغاد، ويتغزل فيهم.
هذا التتابع الآخير أفقد الفيلم الكثير لدى الجمهور، وأظن أنه سيفقده الكثير أيضًا في حفل الأوسكار القادم.. فمع فينالة مثل هذه لن ينال الفيلم لا جائزة السيناريو ولا جائزة أفضل فيلم.. خصوصًا أن ما يتنافس معه هذا العام أفلام في ثقل " حياة باي"، " البؤساء"، " لينكولن"، وغيرها.. لكن هذا لا يمنع أنه غالبًا سيقتنص جائزة أفضل ممثل مساعد.