لا يخفي على متابع ما تعانيه السينما المصرية اﻵن فى ظل الظروف المحيطة بالوطن من كل اتجاه. وعلى هذا فأنه يجب الاحتفاء بكل محاولة جادة لكسر الكساد واختراق السوق من جديد والمساهمة بشكل فعّال فى إخراج الفن السابع من كبوته التى نتمنى ألا تطول. غير أن احتفاؤنا ودعمنا للسينما كصناعة وتجارة وفن لا ينبغى أن يجعلنا نستسلم لركيك الأعمال والاستسهال الذى بدا سائداً فى لحظة الفن الآنية.
صار جلياً لدى عامة جمهور الفن بشكل عام والسينما بشكل خاص أنه إذا أعلن أحد النجمين " خالد صالح" أو " خالد الصاوي" عن مشاركتهما فى بطولة عمل جديد. فأن ذلك –لى كمشاهد– يضمن ولو الحد الأدنى من الاجتهاد والاهتمام واحترام عقليتي وثقتي. واليوم نناقش عملاً اجتمع عليه النجمان وحمل توقيع " محمد مصطفى" مخرجاً وهو " الحرامي والعبيط". فيلم يشعرك منذ بدايته أنه صنع ليكون من كلاسيكيات السينما بعد خمسين عاماً.
لم تعتد السينما المصرية تقديم أعمال تقترب من شخصيات "المتسولون" أو مجاذيب الشوارع الذين امتلأت بهم طرقات المحروسة عبر السنين إلا فى حالات نادرة، وغالباً من منظور كوميدي كاريكاتيري، غير أن السيناريست " أحمد عبد الله" اختار هذه المرة أن يقدم دراما هؤلاء، والقصص المهمشة عميقة الأثر التى خلّفت أحد هؤلاء الذين يظهرون غالباً فجاة كما يختفون فجأة، فى الشارع الذى تسكن به، أو بجوار مقر عملك، أو فى ركن حديقة حيّك.
ذكرتنى القصة بمسرحية لصامويل بيكيت تدعى "مالون يموت" حيث تناولت أيضا دراما لخلفية أحد هؤلاء.
فى "الحرامي والعبيط" كانت الإمكانيات الإنتاجية المتاحة عادية أو بسيطة. لأن هذا هو منهاج وسياسة "السبكية" ولأن الحدوتة لا تحتاج إبهاراً فى الصورة ولا ديكورات عالية التكلفة ولا استيراد للمصورين وأطقم عمل "ستانت"، وما إلى ذلك مما يرفع غالباً كلفة الإنتاج. وكانت الإمكانيات المحدودة جليّة فى جودة الصورة بالذات التى لم تكن على قدر الجودة المنشودة. فى رأيي الشخصي اعتمد هذا العمل بالذات على الإمكانيات التمثيلية الاستثنائية لبطلي العمل. والذى بدا منذ اللحظة الأولى للفيلم أن هناك اتفاقاً غير معلن أن تكون هناك مباراة تمثيلية حامية الوطيس. فقدم خالد الصاوي دوراً لم يقدمه من قبل –بينما قدمه الجميع قبله- نموذجاً شعبياً مصرياً خالصاً للبلطجي صاحب السطوة الذى لا يخشى حتى الموت لفرض هيبته واستقرار ملكه. فى النصف الأول من الفيلم بدا لي الصاوى مبالغاً بعض الشيء وانفعاليا فى لغة جسده بشكل لا يناسب تماماً تلك الشخصيات التى غالباً هدّ قواها المخدر وكثرة التردد على الأقسام والمعارك الدموية المستمرة. ولكن على أية حال فلم تكن تلك المبالغة مشوّشة على الاستمتاع بدور جديد قديم يقدمه ملك الدراما بروحه وبصمته. وعلى صعيد خالد صالح فى دور "فتحي" فـالحق أن الرجل قد قدم دوراً عالمياً باقتدار. لم أكن اعتقد أن هناك من سيحكم تلك الشخصية بذلك الشكل، خاصةً وأنها ليست من الشخصيات الشائعة التى وأن لم تتعامل معها شخصياً فانك تستطيع توقع تاريخها وسلوكها وتفاصيلها الدقيقة. بل على العكس أكد أنه ليس منا من توقف لدقائق ليتعامل مع أحد هؤلاء وعلى الرغم من ذلك فقد كدت أشم رائحة "تحت الكوبري" فى مشهد الظهور الأول لخالد صالح. وعلى ذكر الأداء التمثيلي فقد فاجأني مجدي بدرفى ظهوره بشخصية الطبيب، تاجر الأعضاء الذى لا قلب له ولا ضمير. وعلى الرغم من ارتباط شهرة بدر بأداء الشخصية الشريرة، إلا أنها كلها فى السابق انتمت غالباً إلى طبقة معينة وفئة لا تتغير، وهى فئة العشوائيات أو الطبقة المتوسطة، لذا كان دوره فى الحرامي والعبيط مفاجأة قوية وسعيدة. فقد أجاد تماماً إحكام تعابير تلك الشخصية الثرية ذات المكانة العلمية المرموقة الذى بالنهاية هو فاسد وتاجر أعضاء يعرف كيف يتحدث بلغة الفاسدين وينحط لمستواهم. وأبرز تفاصيل الشخصية على الرغم من حجم الدور الذى لم يتعد الخمس مشاهد.
وأن كان الأداء التمثيلي وحنكة النجمين الكبيرين هما رمانة الميزان فى هذا العمل، فأن المكياج والأكسسوار أحدثا عنصراً فارقاً فى توصيل كل ما اجتهد النجمان لتوصيله. فملابس ومظهر "العبيط" كانا على درجة من الدقة والتحرى حتى أظهرا "فتحي" كمجذوب ومتسول حقيقى ليس به لمحة زيف. وكذلك تلك الحقائب المهترئة التى كان يجمع بها قصاصات الأوراق. تفاصيل دقيقة تنم عن دراسة واستهدافاً للتميز وللمصداقية. بينما ظهر الصاوي بمظهر "البلطجي" الكلاسيكي، الحامل دوماً لسلاح أبيض بهدف وبدون.
كما جاء اختيار المخرج ومنسق المناظر موفقاً وإن كان سهلاً ومتوقعاً. فمشهد المشاجرة التى فقد فيها "روسّى" عينه اتخذ موقعاً فى حي عشوائي شديد الشبه بالحادث بالفعل فى واقع مصر، والذى سرّب شعوراً بالصدق والإقناع لكل من شاهدوا الفيلم.
والدراما فى الحرامي والعبيط هى دراما متصاعدة بدأت بتمهيد –مباشر- بصوت صلاح روسّي، و مواجهته للكاميرا راوياً للأحداث ومتحدثاً عن نفسه وعن شخصيات العمل فى تفصيلة لم افهم مغزاها، ولا سبب اعتماد المخرج لها. وتصاعدت مع النزاع الطفيف الذى نشأ بين "صلاح" و"فتحي" فى البداية واستمر لينمو ويتحول إلى مقت واستياء ثم عودة لحل الأزمة باحتياج صلاح لـفتحي ليحتال عليه ويحصل على أحدى عينيه, ثم أكثر من عضو من جسده بعد ذلك. إلا أنه كان من الملحوظ إيقاع الفيلم البطىء نسبياً والذى كاد يتسبب فى ملل المشاهد فى النصف الأول من الفيلم، الذى استغرق حوالي الساعة والربع بلا أحداث تقريباً؛ فقط استعراض للمكان والزمان وشخصيات الأبطال كما ذكرنا آنفاً.
وكما أجاد المخرج فى توجيه ممثليه واستحضار تفاصيل دقيقة تمس المصريين بشكل قاسي وقريب مثل الأم الصارمة العجوز وتفاصيل مظهرها وسلوكها وقسوتها فى أحيان كثيرة، والتى أبدعت فيها العظيمة: عايدة عبدالعزيز.
فأن السيناريست أحمد عبدالله قد أجاد أيضاً كثيراً فى ملعب هو أحد أهم المتمرسين به، وهو الدراما الشعبية واستحضار حدوتة بسيطة تجمع أكبر عدد ممكن من الشخصيات التى نعرفها، وتعيش بيننا والتى تنتمى غالباً لفئة "سكان العشوائيات".
قال المنتج " أحمد السبكي" فى العرض الخاص للفيلم أن قصة الفيلم هى اجتماعية بسيطة بحتة لا تحمل أى دلالات سياسية. ولكنى رأيت العكس تماماً وشعرت بإسقاط واضح تمثل فى رمزية –قد أكون وحدي من شعرت بها– لشخصيات "العبيط"، الحالم المسكين المريض الفقير المشرد و"الحرامى" العنيف ذو القلب القاس الذى لا يلين المستعد لفقأ أعين أى من كان توفيراً لمصلحته وحده.
إجمالاً جاء فيلم الحرامي والعبيط متماسكاً إلى حد كبير وبعيداً عن ابتذال "حشر" الثورة والسياسة التى أصبحت سمة أفلام ما بعد الثورة. وكذلك نجا من فخ الكوميديا الصارخة المصطنعة ليقدم وجبة فنية تــحترم عقل المشاهد ويحترمها ذوي النُّهى.