يبدو أنّ الحياة قد انتهت به إلى حالة من الإيمان المُرهَق. وأنّ الاضطراب الطويل، لم يعد استمرارُه ممكنًا، وظهرت الحاجة إلى إيمان فضفاض ببعض التفاصيل الإنسانيّة، تمثل المعنى الذي سوف تستمر الحياة اعتمادًا عليه. يبدو أن عبارة محمود درويش الكلاشيهيّة عن "أنّ على هذه الأرض ما يستحق الحياة" هي حجر الزاوية لهذه المرحلة من سينما " وودي آلان". تأتي الألفيّة بمجموعة من الأفكار التي كرّر "آلان" التعبير عنها في أفلامه... أوروبا... إنها الحيوية في مواجهة ميكانيكيّة الحياة الأمريكيّة، وسعيها وراء إدارة الواقع بشكل حسابيّ مُرهِق. أصالة الروابط بين الناس في مواجهة براجماتيّة الصلات بين أهل نيويورك. أركان أوروبا العامرة بالذكريات، وحالة الحنين إلى واقع قديم أجمل نؤمن في وجوده.وإن كانت "نيوريورك" مدينة بالأبيض والأسود، ففي أوروبا مدنٌ بالألوان.. وهذه ثلاثة أفلام منها..
فيكي كريستينا برسلونة
قبل "فرويد" كان الاعتقاد السائد أن عقل الإنسان هو وعيه. وهو ما يتحكّم في سلوكه. لذلك كانت الفكرة الأهم التي طرحها فرويد هي أن عقل الإنسان ليس وحدة واحدة، وأن هناك جزء يقع خلف وعيه.. يلتقط التفاصيل بجودة أكبر، ويحفظها للأبد.. لا يتجاوز حوادث بعينها وقعت في حياة الإنسان، وتحكمت في سلوكه بشكل يفوق الوعي.ومن تطويرات هذه الفكرة، كانت تناقض ما يحمله الوعي والـ لاوعي، فالإنسان يحمل الشعور وضده، ووعي الإنسان لا يسمح إلا بالتعبير عن أحدهما فقط، ويبقى الآخر مدفونًا في ما وراء إدراكه، لكنه يبقى مُتحكِّمًا جدًا.
فيكي/كريستينا:فيكي فتاة أمريكيّة عمليّة للغاية، تعرف ما تريده بوضوح، وتتحرك ناحيته في ثبات، لا تحب أن تقف على أرضٍ غير صلبة وأن تترك نفسها للتجريب. تعرف ما تريد بوضوح في مجال العمل، واختارت رجلاً أمريكيّاً ناجحًا، يرغب في الارتباط والاستقرار، ووافقت على الزواج به.كريستينا فتاة أمريكيّة تشعر برغبة جارِفة في شيءٍ ما لا تعرفه بالتحديد، لكنها تأمل في الوصول إليه.. ربما في نقطة ما. لا تتأخر عن المضي إلى ما يعجبها، وترجع عنه إن فقدت الرغبة فيه. هي لا تعرف لنفسها هُويّة محددة، لكن هذا هو آخر تنشغل به. منذ البداية نعرف التناقض التام بين طريقتيهما في إدارة الحياة، لكنّ المقارنة بين فيكي وكريستينا، ليست مقارنة بين فتاة وأخرى، لكنها بالأساس مقارنة بين ( واقع حياتنا)، وبين (ما يجب أن تكون عليه). فيكي وكريستينا هما شخصيّة واحدة، والخلاف بينهما هو خلاف بين الـ لا وعي الذي يريد، والوعي الذي لا يمتلك الشجاعة الكافية للحركة. كريستينا هي لاوعي فيكي.
المحك الحقيقيّ في الحكاية كان في ظهور الفنان البوهيمي "خوان أنطونيو" بطريقته المُقتحِمة لهما معًا، ويبدأ تفاعل.. حيث ترفض فيكي الأمر بصورة قاطعة وتبدأ في مهاجمة الرجل الذي يمثل لها كل نقيض لخطيبها الأمريكيّ الذي يهتم بالنقاش عن البيت الذي سوف يسكنان فيه، وكابل القنوات التليفزيونية، وديكور المنزل.... إلخ. بينما يتكلم ذلك الأسباني عن الفن، والجنس والعمارة والتماثيل إلى درجة تجعل فيكي تعدد مميزات خطيبها، وكأنها تحاول إقناع نفسها بصواب اختيارها، وتبتعد عن الرجل الأسباني الوسيم الذي يحمل الحيويّة التي تفتقدها حياتها.تُقدِم فيكي على الزواج، وهي تعرف أنها تميل تمامًا إلى "خوان أنطونيو"، وبخاصة بعدما خاضت تجربتها الجنسيّة الوحيدة معه، ولكنها لا تتراجع عن المضي في إنجاح هذا الزواج التقليدي مضمون التفاصيل.ترى فيكي إحدى قريبتها التي تحكي عن كيف فقدت الشغف بزوجها، وكيف توقفت عن حبّه منذ سنين، وتحاول هذه المرأة أن ترتب لقاء بين "فيكي" و"خوان أنطونيو".. في النهاية تتراجع إرادة فيكي قليلاً لكنها لا تلبث أن تعود لرفضها عندما ترى زوجة "خوان أنطونيو" السابقة ثائرة عليه وقادمة لقتله. تدرك فيكي حينها أنها لا تستطيع أن تحيا هذه الحياة الصاخبة، وإن كانت هي الحياة الحقيقيّة التي تحمل داخلها شغفًا خفيًا بها. ويمضي بها خوفها إلى مواجهة الشغف والدخول معه في معركة لكبته، وإسكات صوته الذي سوف ينتهي بها إلى الدخول في تفاصيل غير محسوبة بدقّة.
كريستينا هي الحلم الذي لا تمتلك فيكي الشجاعة الكافية لملاحقته. تبدأ الحكاية بـ فيكي في المقدمة، بينما كريستينا باهتة لا شيء يميزها. لكنها لا تتراجع عن المضي تمامًا في حياة الأسباني الفنان. تظهر زوجته السابقة مرّة أخرى، وتحتّم الأحداث أن تعيش في منزله، فلا تتراجع عن الحياة معهما في علاقة غريبة، تطورت إلى حبّ جنسيّ ثلاثي. هناك تكتشف هواياتها الحقيقيّة، وتكتشف ما يميزها، وتعرف أكثر عن واقعها ونفسها. في النهاية تتراجع كريستينا لأنها تطمح في تجربة أخرى، وتكمل البحث عن شيء آخر لا تعرفه بعد أن اكتسبت رونقها الخاص، وتخبو فيكي.
ماري إيلينا:
"ماري إيلينا" و"خوان أنطونيو" رسّامان أسبان، كانت هي ملهمته بالعديد من الطرق، علاقتهما شديدة الحيويّة والبساطة، تقترب منه عندما تحبه، يتزوجان، يتشاجران عند الغضب، يمارسان الجنس عند الهدوء، يحاول كلٌّ منهما قتل الآخر في مرحلة ما من حياتهما.يبدو أنّ "وودي آلان" يكنّ الكثير من الإعجاب لهذه العلاقة، وحيويتها، وصدقها. كيف أنّها تعتمد على الحركة، والتقلّب. لا كذب فيها ولا محاولة لتغطية الأمور. كما أنها تختلف عن العلاقات الأمريكيّة شديدة النفعيّة، حيث يلعب الناس أدوارًا محددة في حياة بعضهم، لو تعارضت المصالح، فلن تستمر هذه العلاقات. هذه العلاقة هي النقيض الواضح لعلاقة "فيكي" بزوجها "دوج" الذي اختارته يمتلك من المزايا ما يؤهله لها كزوج.
مع نهاية العمر يقف وودي آلان ليرى حياته السابقة، ويرى أن الخوف يمنعنا من ملاحقة ما نحلم به، لأن عواقب التجربة مخيفة نقف عندها ولا نتحرك. أو أننا نحلم ولا نمتلك الشجاعة على دفع ثمن الحلم. فقط... نحن نحتاج أحيانًا إلى بعض الجرأة والحدة في اتخاذ مواقف ربما تلعب دورًا حاسمًا في رسم حياتنا بصورة أجمل وأكثر حيويّة.ربما لهذا السبب تحرّك وودي آلان في أفلامه الأخيرة إلى مدن أوروبا بعد محبوبته نيويورك التي يراها مدينة بالأبيض والأسود في مواجهة مدن أوروبا المُلوَّنة.
منتصف الليل في باريسباريس .. نوستالجيا:
يفتتح وودي آلان فيلمه بتحيّة طويلة إلى باريس المعاصرة.. يرسم فيها جمال المدينة.. المقاهي، الحانات، الشوارع المرصوفة بالأحجار، الحدائق، برج إيفيل، الجسور، النوافير، اللوفر، أقواس النصر.. نرى باريس تحت المطر. ونتعرف على "جيل" الكاتب الأمريكي الشاب، وحنينه إلى باريس العشرينات، البهجة المتنقّلة كما وصفها "هيمنجواي".. العروض الفنيّة، والنقاشات الأدبيّة. باريس العشرينات، النار التي تجذب إليها المثقفين والفنّانين... سكوت فيتزجيرالد وزيلدا، بابلو بيكاسّو، سلفادور دالي، لويس بونويل... في منتصف كل ليل، يتحقق حلمه، وترتدي باريس الثوب القديم، فيعود إلى الوراء قرنًا من الزمان مع دقّات الساعة، حيث يجالس أبطاله، ويحادثهم، يأخذ ملاحظاتهم حول روايته، ويقع في هوى "أدريانا"، ويشبع النوستالجيا القديمة.
في باريس ذلك الزمان، فللناس أيضًا حنينهم الخاص لباريس أقدم، حيث بداية القرن التاسع عشر، فـ "أدريانا" التي أحبها "هيمنجواي" و"بيكاسو" لديها نوستالجيا إلى رجال آخرين من العصر السابق "هنري دي تولوز لوتريك"، و"إدجار ديجاس". يبدو أن هؤلاء بدورهم لديهم حنين إلى باريس عصر النهضة.. عصر "رافاييل"..ويبدو أن الأمر سوف يستمر بهذا التراتب، حتى نصل إلى بداية الخلق. كلّ جيل لديه حنينه إلى جيل سابق، والجميع يرى أنّه قد وُلد متأخرًا جدًا عن الزمن المناسب. النوستالجيا... هذا الحنين الغامض إلى تفاصيل واقع قديم، نأمل فيه جمالاً نادرًا، ونراه مناسبًا بدرجة لا تتوافر في عصرنا. إنه ذلك الوهم الذي نخدع به أنفسنا لمراوغة قُبح الواقع، بواقع أجمل نؤمن بوجوده، ونصدق أنه كان حقيقة عند نقطة ما. سوف يساعدنا هذا الوهم على الاستمرار في الحياة، بأمل كاذب في العودة إلى الماضي، أو إعادة إحيائه من جديد. الماضي لم يكن أجمل في يومٍ من الأيام.
الحب.. نوستالجيا:
فتّش عن المرأة، وسوف تجد الحكاية مرسومة حولها. "إينيس" خطيبة البطل، التي يعرض الفيلم المراحل الأخيرة من علاقتهما، و"أدريانا" الحبيبة الخياليّة. منذ اللحظة الأولى ندرك عدم التوافق بين "جيل" وخطيبته، ويظهر التساؤل حول سبب استمرار العلاقة وتقدمها نحو الزواج رغم ذلك. فهما لا يجمعهما إلا بعض الآراء المشتركة حول الطعام الهندي! يرى "هيمنجواي" أن الحب يطرد الخوف من الموت، وهذا ما لا يشعر به "جيل"، الذي بدأ في تناول الحبوب المهدئة منذ بداية خطبته، لكنه يأمل أن ينتهي هذا التوتر قريبًا بعد الزواج. الدور الذي لعبه " أوين ويلسون" في الفيلم، هو الدور الكلاسيكي لبطل "وودي آلان".. رجل نصف ناجح، متوتر، يتحدّث بعصبية، وله نبرة مدافعة طيلة الوقت، يخشى التغيير، أو خوض المغامرات... طالما كان الدافع وراء استمرار العلاقات المتعثرة عند هذا البطل، هو الخوف من التغيير، وعدم القدرة على اتخاذ قرارات حادة، فأبطال وودي آلان، يتركهم الناس، لكنهم لا يتركون أحدًا. لكن في حالة جيل هناك بعد آخر يطرحه آلان إلى جوار الخوف.. انتظار وضعٍ أكثر راحة. وربما نوستالجيا للحظات الحب الأولى قبل أن تصطدم العلاقات بالواقع.
لماذا يبحث الناس عن الحب؟ لأنهم يبحثون عن إشباع اجتماعيّ، وجنسيّ، وشعوريّ.. ومن ثمّ فإن العلاقات عند "آلان" لا تعرف الاستمرار المطلق، ولها غرض لا أستطيع نفي النفعيّة عنه. علاقات "وودي آلان" لها تاريخ صلاحية، ينتهي عندما تتوقف هذه العلاقة عن إشباع أصحابها، ويجدر بهم حينئذ أن يتحركوا من أجل علاقات جديدة. من السهل أن ينجذب اثنان إلى بعضهما في لحظات خارج الزمن، وبعيدًا عن تفاصيل الواقع (مثل اللحظة التي يهدي فيها جيل القرط إلى أدريانا، ويقبّلها في شارع باريسيّ هادئ.)، ولكنّ هذه اللحظات لن تصمد أمام اختلاف طرق إدارة الحياة (ويظهر هذا في المشهد التالي عندما يظهر اختلاف عصور النوستالجيا الخاصة بهما). من الممكن أن تستمر العلاقات مع هذه الاختلافات، لكنها سوف تفتر، وتبقى أسيرة نوستالجيا لحظة الحب الأولى، تحاول أن تعود إليها، وتفشل باستمرار. ومن ذلك فإن الحب عند "آلان" نشاط واقعي أرضيّ بشكل شبه كامل، ولا مكان للوجود الشِعري للحب كتلاقى بين روحين، ينبت بينهما شيءٌ ما سماويّ.
ينتهي الفيلم، بـ "جيل" في صحبة فتاة باريسيّة تشاركه الاهتمام بموسيقى "كول بورتر"، وتحب المشي تحت المطر مثله، ويبدو أنها لن تمانع من الحياة معه في المدينة التي قرر الاستقرار بها.
إلى روما.. مع حبّي ...هذا الفيلم يشبه قاع حقيبة قديمة، تراكمت فيها ذكريات لا رابط بينها سوى المكان. تفاصيل وحكايات متكررة، لا تصلح لأن يصنع أحدها حكاية طويلة متماسكة، فقرر "آلان" أن يحكيها جميعًا.
الحكاية الأولى: يقول "مارشيللو ماستروياني" أنّ الرجل الإيطالي هو إنسان بسيط، وضحل نوعًا، لكنّه صادق. هذه هي حكاية أحد هؤلاء الرجال المغمورين، الذين ليس لديهم ما يميّزهم. يوجد منهم مئات الآلاف في روما. ماذا لو أنّ أحدهم تحوّل فجأة إلى شخصيّة شهيرة؟ هذا ما حدث. فجأة تحوّل الرجل إلى شخص تتصدر تفاصيل حياته عناوين الصحف، ولقاءات التليفزيون. كيف يحب خبز الإفطار؟ نوع الملابس الداخلية التي يرتديها.. توقعاته للطقس.. نوع كريم الحلاقة الذي يستخدمه.. شهرة طاغية بلا سبب واضح.ما الذي يجعل الناس مشهورين؟ هل هو قيمة ما يقدمونه لحياة الناس؟ أخلاق يتميزون بها على غيرهم؟ أراء لا يستطيع غيرهم تقديمها؟.. الحقيقة أن سبب شهرة معظم نجوم السينما والرياضة والموضة هو أنهم يظهرون على التليفزيون، وأن مصوري الفضائح يطاردونهم. إنهم مشاهير لأنهم مشاهير!.. ومن ثمَّ فمن الممكن أن تصيب الشهرة أي إنسان، وهذا هو الاحتمال الذي عرضه آلان.
الحكاية الثانية: هي حكاية تحدث في نصف نهار، بطلاها شاب وزوجته، وصلا حديثًا إلى روما من أجل فرصة عمل للزوج عند أعمامه. تفقد الزوجة طريقها في روما، وتقابل ممثلاً شهيرًا يحاول جذبها جنسيًا إليه، ويتورط الزوج بالخطأ مع عاهرة، يقدمها إلى أعمامه على أنها زوجته.الزوج رجل خجول، كان بتولاً حتّي تزوج، والزوجة من ذلك الطراز الهادئ الذي يخفي شغفًا بالمغامرات الغير محسوبة، والحياة الصاخبة (وهو النموذج الذي قدمته " ميا فارو" ببراعة في فيلم "زهرة القاهرة القرمزية"، أو كما قالت " ديان كيتون" في "حب وموت": أشعر أني نصف قدّيسة، نصف عاهرة)ينتهي اليوم وقد مارس كلاً منهما الجنس مع شخص آخر، فأرضى هو ميلاً خفيًا إلى الحصول على خبرة لم تتوافر له من قبل، وأرضت هي شغف المغامرة. ورجعا معًا وقد صارت علاقتهما أفضل حالاً. وقررا العودة إلى منزلهما ومغادرة روما. وكأن القدر قد أتى بهما فقط من أجل تلك الأحداث التي لم تستغرق إلا ساعات، تمت فيها خيانة رباط الزواج، لكنها جعلته أكثر قوة!!كما تعرض هذه الحكاية موقفًا أخلاقيًا مكررًا .. فيه العاهرة " بينلوبى كروز" التي تحضر حفلاً يضم شخصيات مجتمع روما الهامة. ويصبح من غير اللائق أن يتواجد شخص مثلها في المكان. لكننا نكنتشف أن الحفل يجمع الكثير من زبائنها، الذين يحرصون على اخفاء صلتهم بها. ليظهر السؤال: هل الأخلاق هي ما نمارسه؟ أم أن الحفاظ عليها شكليًا هو الأمر؟ هنا تصبح العاهرة هي الشخص الصادق الوحيد في المكان.
الحكاية الثالثة: هي حكاية فتاة أمريكية تقع في حب شاب إيطالي. التفصيلة الأجمل في هذه الحكاية هي ظهور وودي ممثلاً بعد انقطاع دام من بعد فيلم "سكوب 2005". وودي آلان بلهجته العصبية المُدافِعة، ونكاته شديدة الذكاء.. قامته القصيرة ووجه الذي شاخ.. هذا الظهور كان هو أكثر تفاصيل الفيلم إبهاجًا على الإطلاق.والد الشاب حانوتي إيطالي، له صوت أوبرالي رائع، لكنه لا يتجلّى إلا في الحمّام! هنا يقرر والد العروس -الذي يعمل في مجال الموسيقى الكلاسيكية- أن يقدمه إلى الجمهور وهو يغني تحت (الدُش).. تلك الصورة الساخرة التي قدمها الفيلم، والتي لن تظهر إلا عند آلان. لقد كسب المُغنّي إعجاب الجماهير والنقاد، وقدّم فنّا حقيقيًا، لكنه خسر جزء من مهابته وهو يغني على المسرح في وضع الاستحمام. فهل يبرر الفن حدوث ذلك؟ وهل يمكن أن يمر الجمال في إنتاجه بمراحل غير جميلة؟ وهل يمكن أن ينفصل الفنان عن مرجعية أخلاقية تقرر سلوكه في سبيل إبداع فنه؟ هكذا يسأل وودي آلان.
الحكاية الرابعة: هي النوستالجيا الأكبر في هذا الفيلم، حكاية وودي آلان التي تتكرر دومًا.. الفتاة الجذابة التي تظهر في حياة شاب مستقر عاطفيًا، فتقلبها رأسًا على عقب ثم تتركه في النهاية دون سببٍ وجيه. والكثير من السخرية حول حديث المثقفين الذين يعرفون الكلمات الكبيرة ويرددونها بلا معنى حقيقيّ.تبدأ الحكاية بمعماري أمريكي شهير يزور إيطاليا، وأثناء تجوله في شوارعها، يتعرّف عليه شاب أمريكي صغير يعيش في روما، وأثناء الحوار نكتشف أن الفتى يعمل في ذات المجال، وأن الرجل كان يسكن قبل ثلاثين عام في نفس الشارع الذي يسكن فيه الشاب... يظهر أن وودي آلان يلعب ذات اللعبة التي رسمها في فيلم " أيّ شيء آخر 2003"؛ حيث يلتقي رجلان يمثلان ذات الحالة في مرحلة عمريّة مختلفة. فقد زار الرجل الكهل مكان شبابه، فالتقى بنفسه شابًا، ورافق ذلك الشاب الذي كانه في يوم من الأيام، لاعبًا دور ضميره الذي يحاوره بصراحة كاملة، بشكل فنتازي جميل، ومتكرر عند آلان.
الفيلم يشبه لقاء غير مُرتّب بين صديقيّ طفولة، وقفا وتبادلا ذكرياتٍ مُبهجة، وافترقا دون ترتيب للقاء آخر.. لكنهما افترقا ووجه كلٍ منهما يحمل ابتسامة عذبة. حكايات مرسومة ببساطة ومرح، متأثِرة برُوْح روما الخفيفة.