عندما تقرر أن تكتب عن سيد درويش فى ذكرى وفاته، تشعر أنك أمام معجزة فنية يصعب تكرارها كثيراً فى عالمنا، فحياة الرجل رغم قصرها، بها كثير من الثراء الذى يصعب معها التصديق أن من أحدث ثورة فى الموسيقى الشرقية واستحق بجدارة لقب باعث النهضة الموسيقية فى مصر توفى وعمره 31 عاما فقط، ولاتزال أغانيه التى أبدعها منذ أكثر من 100 عام حاضرة بيننا، فحتى الآن لانزال نردد زورونى كل سنة مرة ، أنا هويت وانتهيت ، أهو ده اللى صار وغيرها من الروائع، و يكفى أن رائعته بلادى بلادى أصبحت النشيد الوطنى لمصر ، ولم يكن اللقب الذى أُطلق عليه فنان الشعب من فراغ، فقد غنى لجميع فئات الشعب العمال والفلاحين والموظفين والعربجية والجروسنات وحتى الحشاشين، كما كان صوتاً للشعب خلال ثورة 1919، فعبر من خلال أغانيه الوطنية عن رفض الشعب للاحتلال الإنجليزى.
بدايات صعبة وانطلاقة قوية
ولد سيد دوريش 17 مارس 1892 بحى كوم الدكة بالإسكندرية، ونشأ فى أسرة فقيرة لأب يمتلك ورشة صغيرة يصنع فيها القباقيب والكراسى الخشبية، و3 شقيقات، كان الأب يريد أن يصبح ابنه شيخاً يحفظ القرآن، فأدخله الكُتاب الذى تعلم فيه مبادىء القراءة والكتابة وحفظ قسطاً من القرآن، وفى سن السابعة توفى والده تاركاً الأسرة بلا مورد، ومع ذلك أصرت والدته على أن يستكمل تعليمه، فأدخلته المدرسة، وكان فيها معلم يهتم بتحفيظ الأطفال الأناشيد القومية والدينية، فكان يحفظ تلك الأناشيد ويرددها، ويذهب للأحياء الشعبية للاستماع إلى مشاهير الشيوخ والمطربين الذين يحيون الأفراح والمواليد، وفى سن الثالثة عشر تقدم للالتحاق بالمعهد الدينى التابع لأحد مساجد الإسكندرية، ولكن تركه بعد عام واحد واتجه للغناء فى الأفراح والموالد لينفق على نفسه وأسرته، ولكن جاءت الأزمة الاقتصادية العالمية 1907 ليتوقف سوق الغناء ويجد سيد درويش نفسه بلا عمل، فاضطر للعمل كمساعد نقاش، وأثناء عمله كان يغنى بعض التواشيح والأناشيد، ولاحظ المقاول أن العمال ترتفع معنوياتهم ويزيد إنتاجهم عندما يغنى لهم سيد درويش، فطلب منه التوقف عن العمل والاكتفاء بالغناء للعمال، فى تلك الأثناء ابتسم الحظ لسيد درويش عندما استمع لصوته ممثل لبنانى اسمه أمين عطا الله، فعرض عليه العمل فى فرقة أخيه سليم، فوافق على الفور، والتحق بالفرقة ليؤدى بعض الأغانى، بعدها سافر مع الفرقة إلى لبنان وقدموا عدة عروض لم تلاقى النجاح المنتظر، ولكن سيد درويش استمر هناك لمدة 9 شهور تعلم فيها أصول الموسيقى الشرقية، ثم عاد للإسكندرية واستمر يعمل بالغناء والإنشاد فى الأفراح والمقاهى الشعبية، بعدها بفترة أعاد سليم عطا الله تكوين فرقته المسرحية، فانضم سيد درويش لها، وسافر معهم مرة ثانية إلى لبنان، لكن هذه المرة نجحت الفرقة، وبقى سيد درويش هناك أكثر من سنة، والتقى كبار أساتذة الموسيقى، وتعلم كتابة النوتة الموسيقية وفنون العزف على العود، وبعد عودته ذاع صيته وتردد اسمه فى الأوساط الفنية، وحرص كبار الفنانين على الذهاب للمقهى الذى يغنى فيه بالإسكندرية ليسمعوه، وكان بينهم المطرب الشهير الشيخ سلامة حجازى الذى أُعجب بصوته، وشجعه على الحضور للقاهرة ليقدمه على مسرحه، وبالفعل قدمه حجازى للجمهور، وغنى سيد درويش ولكن الجمهور لم يرض عن أدائه، مما جعل الشيخ سلامة يخرج إلى الجمهور قائلاً لهم " هذا الفنان هو عبقرى المستقبل"، أصيب سيد درويش بإحباط كبير وعاد إلى الإسكندرية واستمر يعمل فيها سنوات الحرب العالمية الأولى حتى جاءته فرصة أخرى عندما طلب منه جورج أبيض أن يلحن له أوبريت باسم فيروز شاه ليقدمه فى مسرحيته الجديدة، وبالفعل لحن الأوبريت الذى كان حينها شيئاً جديداً على الموسيقى العربية، فأخذ الناس يرددونها، مما دفع نجيب الريحانىللتعاقد معه ليلحن له أوبريتاته، وكانت بداية تعاونه معه فى أوبريت اسمه " ولو" نجح وانتشر بشكل كبير، ولذلك تهافت عليه أصحاب الفرق فكان يؤلف لهم ما يطلبونه إذ أعجبه موضوع الرواية، وجاء وقت كانت توجد فى القاهرة أربع فرق وعدة صالات للغناء كانت كلها تقدم أويريتات من تلحينه.
بديع خيرى.. شريك النجاح
لا يمكن أن نذكر سيد درويش دون الإشارة إلى بديع خيرى، حيث يعتقد الكثيرون أن بديع خيرى كان شريكاً فنياً لنجيب الريحانى فقط، ولكن الحقيقة أنه كان أيضا شريكاً أساسياً فى نجاح سيد درويش، فقد كتب له العديد من أعماله الناجحة منها قوم يا مصرى و الحلوة دى وغيرها الكثير، ويحكى بديع خيرى فى أحد حواراته الصحفية عن علاقته بسيد درويش قائلاً " لقد عرفت سيد درويش عندما جاء به الأستاذ جورج أبيض من الإسكندرية على إثر ذيوع أغنيته المشهورة زورونى كل سنة مرة، كنت يومها مازلت مدرساً وكانت صلتى بالمرحوم نجيب الريحانى فى بدايته، وأدرك العبقرى نجيب سر عبقرية سيد درويش فدعاه للعمل معه وتعاونت معهما، ومنذ ذلك التاريخ أصبحنا ثالوثاً لايفترق أفراده، كنت أكتب الكلمات ويلحنه سيد درويش ثم يغنيه نجيب الريحانى وأفراد فرقته فتنتشر فى أنحاء القطر في اليوم التالي.. عرفنا المجد وعرفنا الدموع، وعشنا مع الشعب فى تلك الفترة السعيدة من العمر.. ثم تركنا سيد مبكراً".
شاعر الثورة
كانت ثورة 1919 علامة فارقة فى تاريخ سيد درويش الغنائى، فقد كان الصوت المعبر عن الثورة، وكانت أغانيه تلهب حماس الجماهير التى كانت تردد رائعته " قوم يا مصرى.. مصر دايما بتناديك.. خذ بنصرى نصرى دين واجب عليك"، وعند نفى سعد زغلول ورفاقه كان يغنى فى المسارح يا بلح زغلول لتنتشر بين الشعب، ويتخذونها نكاية وسخرية من عساكر الإنجليز.
خادم الموسيقى
بعد النجاحات التى حققها سيد درويش قرر أن يكتب عن الموسيقى، فكتب للصحافة مقالات موسيقية كان يقصد بها توعية الجمهور والتثقيف الموسيقى العام، واعتبر هذا الميدان الذى لم يرتاده أحد قبله أحد واجباته تجاه الرسالة الفنية التى حمل لوائها ، وكان يوقع مقالاته بـ " خادم الموسيقى سيد درويش" ، ثم قرر أن ينشر كتاباً يضم نوت ألحانه واتفقت معه إحدى الصحف على نشر الكتاب فى حلقات.
وفاة مفاجئة
شكلت وفاة سيد درويش صدمة لكل محبيه وعشاقه، حيث سافر يومها إلى الإسكندرية ليكون فى استقبال سعد زغلول العائد من المنفى، وليُحفظ طلاب وطالبات المدارس النشيد الذى لحنه لاستقباله، ولكنه أصيب بنوبة قلبية مفاجئة مساء العاشر من سبتمبر 1923، وفى وسط الاحتفالات الشعبية المقامة فى الإسكندرية لاستقبال سعد زغلول لم يشعر أحد بوفاة أعظم عبقرية مصرية ظهرت فى العصر الحديث، وشيعت جنازته في احتفال متواضع لم يشيعه فيه الا عدد قليل جداً من أهله وأصدقائه. وتضاربت الأقوال حول سبب الوفاة ، قيل أنه مات نتيجة تعاطيه جرعة زائدة من مخدر الكوكايين الذى كان منتشرا فى مصر خلال تلك الفترة، وقيل أنه أصيب بأزمة قلبية مفاجئة بسبب الجهد الكبير الذى بذله فى لحن بلادى بلادى لاستقبال الزعيم العائد من المنفى ، لكن أسرته أعلنت صراحة انه تعرض لعملية تسمم مقصودة من قبل السلطة بالتعاون مع الاحتلال البريطانى بسبب موقفه المؤيد لثورة 1919 ، لكن تعددت الأسباب والموت واحداً ..مات سيد درويش الذى عاش فناناً للشعب ومات خادماً للموسيقى.