في أواخر التسعينيات والسنوات الأولى من الألفية الجديدة، قامت مجموعة BBC البريطانية بإنتاج سلسلة وثائقية غير مسبوقة عن الحياة على كوكب الأرض في عصور ما قبل التاريخ، أحدثت بها فتحًا جديدًا تمامًا في مجال الوثائقيات سار على نهجه العشرات بعد ذلك. السلسلة كانت عظيمة وثورية في كل شىء.. إنتاجًا، وفكرًا، ورؤية، ومؤثرات حاسوبية.. وكانت تحمل عنوان رئيسي هو ..Walking With، متبوعًا بأكثر من وصف حسب الحقبة التاريخية.. Walking With Monsters التي تناولت قصة الحياة قبل عصر الديناصورات، وتبعتها بـ Walking With Dinosaurs، ثم Walking With Beasts، وأخيرًا Walking With Cavemen (هذا هو الترتيب التاريخي الدقيق للسلسلة، وليس تاريخ الإصدار). أهم وأنجح الأجزاء كان الخاص بعصر الديناصورات، خصوصًا أنه ظهر في الحقبة التي يعرفها المهتمون بمجال الحفريات بـ 'صحوة الديناصورات الثانية'، والتي بدأتها مجموعة من الاكتشافات العلمية الحديثة التي قلبت وجهة نظرنا تمامًا تجاه تلك المخلوقات البديعة.
فيلم التحريك الجديد Walking With Dinosaurs 3D يشترك مع سلسلة الـ BBC في الاسم والإنتاج والموضوع.. إلا أنه يختلف فنيًا في كل شئ عن ما تم تقديمه قديمًا ببراعة. فمع دخول هوليوود - مُمثلة بستديو فوكس للقرن العشرين - إلى اللعبة كشريك رئيسي في الإنتاج، أخذت العمل برمته إلى الاتجاه الخاطئ تمامًا.
في السلسلة الأصلية شاهدنا عرض خلاب للحياة اليومية للديناصورات، من ظهورهم الأول باستحياء منذ أكثر من 228 مليون سنة، مرورًا بسطوتهم الكاملة على العصر الجوراسي، وانتهاءً بانقراضهم الكبير في العصر الطباشيري منذ 66 مليون سنة.. مع تعليق صوتي واعٍ ومثقف وغزير بالمعلومات، يمزج العلم بالفن والخيال بشكلٍ فريد.
كان الجميع ينتظر أن يسير الفيلم الجديد في ذات الطريق، بل ربما يأخذه إلى آفاق أوسع وأكثر رحابة بمراحل.. خاصةً مع تطور التقنية التي ممكن أن تقدم لنا الديناصورات كما لم نراها من قبل.. في الفيلم، نتابع الهجرة السنوية الجبارة لقطيع من الـ باكيرينوسورات، ديناصورات عاشبة ذات جمجمة طويلة ممتدة تمشي على أربع اعتادت أن تقطن المناطق الشمالية في كندا ما قبل التاريخ. السيناريو كان مقدرًا له في البداية أن يستعرض الأحداث كـ Docu-Drama، أي فيلم وثائقي في قالب حكي سينمائي روائي.. وكان من المفترض أن نشاهد هذه الملحمة الطبيعية في شكل وثائقي رصين يليق بها. هذا قبل أن يغير المنتجون رأيهم في النهاية ويأخذوا الفيلم في اتجاه مختلف تمامًا سيذكرك بأفلام الكارتون السخيفة التي نراها على التلفزيون، خاصةً تلك الموجهة لأطفال لا تزيد أعمارهم عن 10 سنوات.
قامت فوكس للقرن العشرين منتجة الفيلم - في مراحل الإنتاج الأخيرة - بتغيير خطتها من عمل وثائقي رصين مغلف بطابع روائي، إلى فيلمًا عائليًا موجهًا في الأساس للأطفال، ومن أجل هذا جعلت جميع الحيوانات في الفيلم تتكلم.. والنتيجة كانت: إخفاق كامل. فيلم هجين لا تستطيع أن تستمتع بجديته، ولا أنت قادر على الانغماس في هزله، خصوصًا مع الأصوات المستفزة.. فبدلاً من أن نشاهد الديناصورات وهي تتفاعل مع بعضها البعض بشكل واقعي عن طريق الزئير والزمجرة والخوار والنهيم.. فُرض علينا قسرًا أن نستمع إلى حوار مزعج لم يتوقف للحظة واحدة طوال الأحداث.. ناهيك عن أن أفواه الحيوانات لا تتحرك مطلقًا، فقط نستمع أفكارها.
تم اختيار مجموعة ممثلين بأصوات بلا أي تميز ولا تقدم أي إمتاع ( جاستين لونج في الدور الرئيسي). الحوار نفسه تمت كتابته بطريقة مزعجة جدًا.. بلكنه أمريكية ونكات معاصرة للغاية.. الأمر الذي سيجعلك تتسائل: هل هذا هو ما يدور في عقول ديناصورات ما قبل التاريخ؟ إنه الشئ الأكثر سخافة الذي من الممكن أن يقدم على الإطلاق.. وللإمعان في التعذيب لم يجعل صناع الفيلم حوارهم يتوقف لثانية واحدة للالتقاط الأنفاس أو التخفيف على عقل المشاهد، لكنه استمر لزجًا، سخيفًا، مزعجًا طوال أحداث الفيلم، حتى في أكثر اللحظات دراماتيكية.. مما سيجعلك تزهد من الثلث ساعة الأولى، وستحاول جاهدًا أن تخمد الأصوات في رأسك بأي طريقة والاستمتاع بالصورة فقط، لكن دون أي نجاح في الواقع.
الآن ماذا عن الموسيقى التصويرية المصاحبة للأحداث؟ والتي من المفترض - في فيلم يستعرض واحد من أهم الهجرات الكبرى التي حدثت في التاريخ - أن تكون أسطورية، أو على أقل جدًا شاعرية، تضعك في الأجواء لا تأخذك بعيدًا عنها.. لكن هيهات.. هنا ستستمع إلى مجموعة من أسخف الأغنيات الأمريكية - المعاصرة جدًا أيضًا - تتنوع بين الروك، والبوب، والهيب هوب.. ولتذهب الأجواء إلى الجحيم.. دعنا نفسد هذا على الجميع بكل طريقة ممكنة.
شيء واحد قد يمتعك في الفيلم وهو العرض المجسم.. الذي أتى مجسمًا جدًا، ورائعًا للغاية. بخلاف هذا، ستخرج من دار العرض بصداع قوي، وبقايا أصوات مزعجة لا تنفك عن الثرثرة داخل رأسك.. الفيلم لاقى إخفاق كبير في دور العرض، خاصةً مع المنافسة الشرسة مع أفلام تحريك أخرى قدمت فنًا حقيقيًا كـ Frozen مثلاً، حيث حقق داخل أمريكا 34 مليون دولار فقط.
إجمالاً، لقد أخذت هوليوود رائعة الـ BBC التي أحبها الجميع وحولتها إلى شئ سخيف ومبتذل، هذا فيلم لن يحبب المزيد من اﻷطفال في الديناصورات، بل قد يجعل من يهيمون بهم حبًا يستشعرون سخافة هوايتهم الفريدة تلك. نصيحة خاصة: لا تذهب لمشاهدة الفيلم في دار عرض.. وإذا كنت تريد مشاهدة فيلمًا رائعًا آخر عن الديناصورات يدور في نفس المكان (ألاسكا ما قبل التاريخ)، ويتناول نفس أنواع الديناصورات تقريبًا لكن مع قدر كبير من العظمة والروعة، فأرشح لك الوثائقي المذهل March of the Dinosaurs. أو ممكن أن تنتظر قليلاً حتى يتم طرح البلوراي الخاص بالفيلم، فنسخة منه ستكون متاحة بدون تلك الأصوات السخيفة، وأيضًا بموسيقى تصويرية مصاحبة مختلفة.. عندها فقط، ستتمكن من الاستمتاع بديناصوراتك العزيزة كما يجب، هذا إذا كنت مهووسًا بها مثلي.