« أغسطس: مقاطعة أوسيدج» هو فيلم عن فن التمثيل.. فقط»، تلك هي الجملة الافتتاحية التي كتبها الناقد الأمريكي جيمس بيراردنيلي في مقاله عن الفيلم، قرأتها بشكلٍ عابر قبل مُشاهدته، وبعد المُشاهدة.. لم أجد أدق منها لوصفِه.
يَفتتح الفيلم بمشهدٍ طويل عن العلاقة المُتدهورة بين الشاعر «بيفرلي ويستون»، وزوجته «فايلوت» المُصابة بالسرطان والتي تتحول لعجوزٍ سَليطة اللسان، ومع اختفاء «ويستون» عن المنزل لعدة أيام، بصورةٍ غامضة، تحضر بناتهم الثلاث: «باربرا»، «كارين» و«إيفي»، ويمتلئ البيت بكل أفراد العائلة، في أيامٍ غير عادية من شهر أغسطس حار، يلقي فيها الجميع العديد من الأسرار على الطاولة.
الفيلم مُقتبس عن مسرحية تحمل نفس الاسم، حولها كاتبها « تريسي ليتس» إلى هذا السيناريو، الطبيعة المسرحية تبدو واضحة، في الحوارات، والدراما الحادة، التأثر بالمسرح الأغريقي، وتلك الأسرار الميلودرامية المُزَلزلة التي تُلقى أمامنا مراراً، تلك «الحدّة» والمشاعر المَكشوفة على السَّطح والانفعالات الخارجية منحت الفيلم أبرز مميزاته: أداءات مُدهشة من طاقم العمل كاملاً بلا استثناء، ولكن، وفي سلبيته الأهم.. يجعل مخرج الفيلم جون ويلز كل منهم وكأنه في عالمه الخاص!
شاهد تحديداً مشهد الغذاء في مُنتصف الفيلم، الذي يمتد لقرابة التلت ساعة كاملة على الشاشة، وينتهي باللحظة الهيستيرية المَوضوعة على أفيش العَمل: «باربرا» تحاول أخذ الحبوب المخدرة من يد والدتها «فايلوت»، المشهد، المأخوذ نَصاً من المسرحية دون تعديلات تقريباً، يختصر بالنسبة لي كل شيء بشأن الفيلم، تبدو موازين الانفعالات دقيقة جداً، مثلثات من التوتر بين كافة الأفراد، والشيء الرائع من الممثلين.. هو تَلبس كل منهم لشخصيته بالقدر الذي يجعل ما يحدث حقيقياً لتلك الدرجة، ستتذكر لحظة ما لكل شخصية رغم اتساع المشهد لـ11 ممثل وممثلة.
هذا رائع، ولكن، عند إعادتي للمشهد، لاحظت أن المخرج «جون ويلز» لم يستخدم لَقطة واسعة للعائلة بالكامل في أي كادر، كل خياراته كانت لقطات قريبة من كل الممثلين، والتقطيع بينها، صحيح أن هذا يُبرز أداء كل منهم بشكل فردي، ولكن بالنسبة لمنظومة الفيلم كاملةً، لخلق «التورُّط» أو الشعور بأنك فرداً إضافياً لتلك العائلة المُضطربة، بدت خياراته الفنيَّة تلك مُضرة لضخامة المشهد في بعضِ الأحيان.
تحليل المشهد يختصر كل شيء بشأن الفيلم نفسه، الفيلم لَقطات مُقربة متتالية، مشاهد ولحظات درامية جداً لكل شخصية فيه، ولكن المشكلة أنه تحوّل في أغلب وقت عرضه إلى عملٍ مُقسَّم، دقائق لكل شخصية ثم ننتقل للشخصية التي تليها، ليس بالصورة المُتناغمة التي تظهر بها أفلام « روبرت ألتمان» مثلاً، أو فيلم عَظيم كـ« ماجنوليا»، والمُقارنة فقط من ناحية تعدد الشخصيات والتقطيع بينهم، في «مقاطعة أوسيدج» لا تتم الأمور بصورة تتداخل فيها الشخصيات وتُعشَّق كبازل يتكامل، ولكن بشكلٍ مُفكك فعلاً، يظهر فرديَّة الممثلين، روعة أداءتهم، ميريل ستريب و جوليا روبرتس و كريس كوبرتحديداً، ولكنه يجعل الدراما تترنَّح.
ما يزيد من هذا الترنُّح هو «التون» الذي يتخذه المخرج «جون ويلز» في التعامل مع النَّص، هناك ميلودرامية إغريقية الطابع تتناثر هنا، زوج يقيم علاقة مع أخت زوجته، وطفل ينشأ مكروهاً لأنه نتاج هذا الخطأ، ويقع في حب من لا يعرف أنها أخته غير الشقيقة، ويُصبح السر كحجر ضخم يعرفه عدة أشخاص فقط دون مصارحة، شيء بهذا الكِبَر والثقل والمأساوية.. لم يتسق معه بأي صورة تلك «الخفة» التي أُخرج بها العمل، خفة التون، النَّفس الكوميدي، لم يتسق معها أن تكون لحظة الكشف من «ماري فاي» اتجاه «باربرا» بتلك الصورة العابرة و«العادية»، بدا الأمر كَسراً تاماً لما يفترض أن يشعر به المشاهد، كأن تعرض مشاهد لزلزالٍ ضخم ولكن الممثلين مازال لديهم مساحة لإطلاق النكات، المخرج هنا من كان يُطلق النُّكات، حتى لحظة خِتام الفيلم، اللقطات الواسعة المُشمسة في موقع تصوير خارجي.. لا تبدو مُتسقة إطلاقاً مع الأذى والكآبة والضيق الذي تشعر به الشخصية في لحظة يتدمر فيها كل شيء في حياتها.
بدت كل الخيارات الإخراجية خاطئة، النَّص كان مُبشراً، والممثلين جميعاً في واحدة من ذروات مسيرتهم، ولكن حكايات وأسرار ودراما بهذا الثقل لم يكن يتناسب معها تلك الخفة.
ملحوظة ختامية عابرة: لم أفهم لماذا رشحت ميريل ستريب في فئة أفضل ممثلة رئيسية، بينما جاءت جوليا روبرتس في فئة أفضل ممثلة مساعدة، العكس هو الصحيح بشكلٍ واضح، وشخصية «باربرا» هي شخصية العمل الأساسية التي تتصل بها أغلب تفاصيله.