دأبت السينما الفلسطينية في السنوات الأخيرة على يد مجموعة من أبرز فنانيها على التوجه بالقضية الفلسطينية إلى مناطق جديدة فنيًا لا ترتبط بالضرورة بالنواحي السياسية للقضية التي تناولتها عشرات الأفلام من قبل، بقدر ما تحاول التنقيب عميقًا في جوانبها الإنسانية، بل وحتى جوانبها الساخرة في بعض الأحيان، محاولين الابتعاد عن كافة الجوانب التقليدية والمألوفة لكافة المتابعين، ولنا في أفلام مثل ( يد إلهية) لـ إيليا سليمان، و( خمس كاميرات مكسورة) ل عماد برناط، و( ملح هذا البحر) لـ آن ماري جاسر أمثلة ساطعة على ذلك.
في ( جيرافادا)، أول أعمال المخرج راني مصالحة، والذي عرضته مبادرة "زاوية" في مدينة القاهرة على مدار الأسبوعين الفائتين، يتخذ راني في فيلمه منحى جديد تمامًا ربما لم يتم تناوله من قبل في أي فيلم فلسطيني، مستوحيًا حكايته تلك عن واقعة حقيقية، حيث تدور الأحداث داخل أخر حديقة حيوان متواجدة في مدينة "قليقلة" الواقعة بالضفة الغربية في زمن الانتفاضة الفلسطينية الثانية، حيث يموت ذكر الزرافة في تلك الحديقة من جراء إحدى عمليات القصف الإسرائيلي التي طالت حديقة الحيوان، مما يدفع بأنثى الزرافة إلى الدخول في حالة امتناع عن تناول الطعام بالرغم من كونها حاملا، مما يدفع ياسين ( صالح بكري)، الطبيب البيطري بالحديقة إلى إيجاد أي وسيلة لكي تعود الزرافة مرة أخرى إلى تناول الطعام.
منذ اللحظة الأولى في الفيلم، يتبدى لنا كثيرًا الاهتمام المنصب من قبل راني مصالحة على الجوانب الوجودية/الإنسانية للقصة في مقابل الجوانب السياسية/ التاريخية، فطوال الفيلم لا توجد إشارة زمنية واضحة لزمن وقوع الأحداث سوى إشارة يتيمة في بداية تترات الفيلم، كما أننا نفهم ضمنًا أن أحداث الفيلم تدور خلال فترة الانتفاضة الفلسطينية الثانية، مما يخلص الفيلم من أي شوائب خطابية كانت كفيلة بأن تثقل كاهله – فيما عدا بعض المشاهد القليلة العابرة التي تعد على أصابع اليد الواحدة -، وتجعل صانع الفيلم يصب تركيزه أكثر على النواحي الوجودية والإنسانية في قصته المطروحة.
المدهش في الأمر كم التصالح الملموس في وجهتي نظر الأب والابن بالغتي التنافر للحياة والوجود طوال أحداث الفيلم، فبينما يتبنى الأب وجهة نظر لا دينية نوعًا ما، نجد الابن على النقيض يؤمن دومًا بالقدرة الإلهية ونفاذها في جميع الأفعال، لتتردد من خلال تلك العلاقة صدى العديد من التساؤلات المطلقة، والتي قد تذكرنا بالحلقة الأولى من السلسلة التليفزيونية الشهيرة (الوصايا العشر) للمخرج البولندي كريستوف كيسلوفسكي، حيث يتماس العملان كثيرًا في تلك التساؤلات، وجو العلاقة التي تغلفها.
من هذا المنطلق، تبرز واحدة من أهم مزايا الفيلم، وهي عالمية التيمات التي ينطلق منها دون أن يحتاج المشاهد لمعرفة مسبقة بأي معلومات تخص القضية الفلسطينية، وهو ما يتجلى أكثر في تعامل الفيلم مع تيمة الطبيعة، وانتصار الفيلم الدائم للحياة في مقابل الموت – كما في المشهد قبل الأخير - في ظل الخراب الذي يحدثه الاحتلال الإسرائيلي في عدوانه الغاشم، وهو خراب يمتد أثره للطبيعة، ولا يتوقف أثره فحسب على الانسان، وهو ما نراه في الرحلة المحفوفة بالمخاطر التي يسير فيها كل من الأب والابن والصحافية الفرنسية في سيبل تحقيق "معجزة" تعيد للابن اتزانه بعد الشك الوجودي الذي اعتاره بعد موت ذكر الزرافة.
بشكل عام، "جيرافادا" من نوعية الأفلام التي سيحبها أيا من سيشاهده أي كان انتماءه الفكري والسياسي، وأيا كان ذوقه السينمائي، لأنه ببساطة يتجاوز كل ذلك نحو ما هو أعم وأوسع، وإذا استطاع المشاهد التغلب على بعض العيوب الطفيفة فيما يتعلق بتوجيه الممثلين، فسوف يستمتع بتجربة المشاهدة لأقصى مدى.